(3-5)
في عمود الأسبوع الماضي تحدثت عن المواكب الحسينية في سنوات الستينيات، وكيف أنني كلما عدت إلى ذلك الوقت، وإلى الطقوس تلك وقارنتها مع ممارسة الطقوس نفسها في أيامنا هذه، كلما لاحظت الهوّة التي فصلت بين الزمنين. كانت المواكب الحسينية التي تُسمى بالسبايات تبدأ في مدينة العمارة في مسيرتها من المدخل الجنوبي لشارع المدينة الرئيسي، شارع بغداد، وتنتهي بالتفرّق عند حسينية الحاج عبدالغفار. كان لكل محلة موكبها مثلما لكل موكب شاعره أو رادوده الخاص، وكانت مسيرة الموكب تبدأ بضاربي الزنجيل الذين يمشون على صفين متوازيين يفصل بينهما قرابة ستة أمتار تقريباً، وفي وسطهم يسير ضاربو النقارة والطبول والصناجات ورؤساء المحلة، فيما يمشي الأطفال الصغار الذين نذروهم أهلهم لضرب الزنجيل في أيام عاشوراء وسط الموكب تحت رعاية ورقابة آبائهم وأقربائهم، ويكون ضرب الزنجيل على الظهر رتيباً على إيقاع النقارة البطيئة التي تشبه المشية الجنائزية في الجيوش، ثم يجيء بعدهم جوقة اللطّامة عراة الصدر ولا علاقة لمشيتهم بضرب النقارة، بل أنهم يشكلون أجواقاً زوجية. لم يكن هناك وجود لا لأمواس الحلاقة الملحقة بالزناجيل ولا لجرح الصدور بآلة حادة كما هي الموضة اليوم. نعم كان هناك التطبير، ولكن الذين مارسوا الضرب الحقيقي بالقامات على الرأس أشخاص معدودون، الأغلبية لامست الرأس بشكل رمزي لتؤدي نذراً قامت به أمهاتهم وحسب، بل حتى وقت التطبير كان يتم في ساعات الفجر الأولى، خارج المدينة، ليس كما اليوم، حيث لا مكان ولا زمان له محددين، بل يصل الجهل واللامسؤولية أن ترسل بعض الأمهات أطفالهن الرضع وفي قماطهم للتطبير. كان هناك نوعٌ من البساطة في تنسيق المواكب وفي مشيتها، في ضربها الزنجيل أو في لطمها، على طول الطريق الذي تمر به يقف جمهور كبير، نساء ورجال يتزاحمون تحت أعمدة شارع بغداد. وكان التزاحم بين الشابات والشباب واضحاً للعيان، فغالباً ما وقفت فتاة بعباءتها السوداء، ووقف خلفها أو إلى جانبها شاب ليس بالضرورة بقميصه الأسود. الصورة ذاتها رأيتها في منطقة الكاظمية، بل حتى في كربلاء والنجف والكوفة. وفي أواخر سنوات الستينيات، بدأ الفصل أولاً بين الذكور والأناث، وأصبح على كل فريق منهما الوقوف عند جهة من الرصيف. هذه المرة وقف الإثنان متقابلين، يغازلان بعضهما، أما المواكب التي تمر فهي ذريعة للإثنين ليكونا هناك.
إذا أردت تشبيه المواكب الحسينية تلك، فهي تشبه مواكب عيد الفصح في بلدان أوروبا الكاثوليكية، خاصة في أسبانيا وإيطاليا والبرتغال، أو أشبه بالجمهور الذي يزور الفاتيكان، أو أشبه بمواكب الكرنفال، أما السير على الأقدام ولمسافة كيلومترات طويلة تستغرق أياماً وليالي حتى الوصول إلى المراقد المقدسة فيشبه الحج إلى فاطمة في وسط البرتغال، أو الحج التقليدي الكاثوليكي القديم الذي ما يزال على الطريق الذي يقود من مدينة ليون الفرنسية وحتى قبر القديس سانتياغو كومبيستويلا في المدينة المسماة على إسمه في إقليم غالسيا في شمال اسبانيا، الفارق، هو لا وجود للخمرة كما هو الأمر في الزيارات الدينية في أوروبا، على اعتبار أن النبيذ عند المسيحيين مقدس، له علاقة بجسم المسيح. على عكس الإختلاط بين الجنسين. كان الإختلاط طاهرة طبيعية ليس في مشاهدة المواكب وحسب، بل في خانات النوم في المدن المقدسة أيضاً. لأن الزوار الذين كانوا يأتون من مدن أخرى في سيارات النقل الكبيرة، كانوا ينامون حيث تقف السيارات، لا يبتعدون عنها، أغلب السيارات إذا ليست جميعها تختار المبيت عند الخانات الكبيرة، نوع من الهوتيلات المعاصرة لسّواق الشاحنات على الطريق السريع.
يتبع
هـل هـذه إذن بغـــداد؟
[post-views]
نشر في: 14 فبراير, 2017: 09:01 م