ضمن برنامجه لشهر شباط/فبراير الجاري، خصّت صالة مسرح الفيلم الوطني الكبرى وملحقاتها، الضفة الجنوبية من نهر التيمس في العاصمة البريطانية لندن، عرض جملة منتقاة من إشتغالات المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي، والتي تدور أحداثها في مدينة نيويورك.فيما وضعت مكت
ضمن برنامجه لشهر شباط/فبراير الجاري، خصّت صالة مسرح الفيلم الوطني الكبرى وملحقاتها، الضفة الجنوبية من نهر التيمس في العاصمة البريطانية لندن، عرض جملة منتقاة من إشتغالات المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي، والتي تدور أحداثها في مدينة نيويورك.
فيما وضعت مكتبتها على واجهة رفوفها الأمامية أهم ما كتب من دراسات عن منجز أبن تلك المدينة، وصاحب النبرة الخاصة في السينما الأمريكية كجزء من الإحتفاء به من خلال محاضرات عن تاريخ مدينة نيويورك. ذلك، فان كانت هوليوود صانعة الحلم الأمريكي وماكنته الجبارة من دون منازع، فان مدينة نيويورك وتعدد عوالمها وتناقض مناخاتها مثلت الإغراء والصنو العملي له. لفتة، ربما، تتجاوز البعد الإحتفالي بمنجز مخرج سينمائي متميز، نشأ ودرس وبرع في مسار صنعته الفنية والفكرية فيها، وغايتها إرسال إشارة بليغة لمغزى صعود أبنها الآخر رجل الأعمال دولاند ترامب لرئاسة الدولة الأقوى في العالم الحر. حقاً يمكن القول، إن ما من مدينة أمريكية لها وقع خاص في نفوس أهلها والعالم مثل مدينة نيويورك. وجهة المهاجرين الأوائل المفضلة، وبوصلتهم تمثال الحرية ووعود الثراء. تاريخها سجل حضوراً لأقوامٍ من منابتَ وأصول عدة جاءت من خلف البحار. قبالة شواطئها تحطمت العبّارة "تيتانيك" في عام 1912، ومن دراما مأساتها صاغ الكندي جيمس كاميرون قصة حب ملتهبة، وليحقق في شباك شريطه النجاح الجماهيري الساحق والعدد الأكبر من جوائز الأوسكار. قرينة ناطحة السحاب العملاقة "أمباير ستيت" و بناية الأمم المتحدة وبورصة "وول ستريت" ومركز منظمة التجارة العالمية، قبل غزوة تفجيره في 11 أيلول/سبتمبر 2001. على مسرحها الأشهر "ماديسون سكوير" تمتمت الأيقونة الأمريكية مارلين مونرو بغنج أنثوي طافح "عيد ميلاد سعيد سيدي الرئيس". إسمها تحول الى ماركة تجارية جرى تسويقها على شكل قبعات وقمصان يتباهى بها من يقتنيها. التفاحة كما تسمى عند الأمريكيين، ومنها إستلفت شركة البرمجيات العملاقة شعارها. غناها فرانك سيناترا "أريد ان أستيقظ في مدينة لا تعرف النوم....نيويورك نيويورك... ان نجحت هنا، سيكون النجاح حليفي أينما ذهبت.. نيويورك نيويورك" حسب كلمات أغنيته الشهيرة. مدينة الحظوظ والإمتيازات والثروات والأحلام المجهضة والخيبات.
مدينة ذات وجوه متعددة تصلح ان تكون مسرحاً للرواية والسينما على عكس غيرها من حواضر أمريكا المسطحة والغارقة ببلادتها. فيها تراكم الزمن وأستقر على شكل "غيتوات" مغلقة على ناسها. ومن عوالمها السرية إزدهرت نشاطات عصابات الجريمة المنظمة والمافيا والجنس والمخدرات والعنف. ومن تلك العوالم إقترب أكثر من روائي وشاعر ورسام وموسيقي، الجاز والبلوز، وسينمائي. وكان على رأس المشتغلين في السينما فرانسيس كوبولا عبر شريطه الملحمي "العراب" بأجزائه الثلاثة. ولكونه أبن "بابل" العالم الجديد الضاج بالناس واللكنات والسحنات والآمال العريضة للمهاجرين، إختار مارتن سكورسيزي طريقه الى عالم الصورة للتعبير عن ذاته القلقة. إشتغل على موضوعات بعينها شكلت "ثيمات" لأفلامه، إن صح التعبير يإيجاز عوالمها، تقارب العنف والجنس وعقدة الذنب المسيحي والإيمان الكاثوليكي وما يدور حولها من شكوك تزعزع اليقين، ولربما إثبات وجود الرب كما في جديده "الصمت". ولهذا الغرض وقع الإختيار على مجموعة إشتغالات سينمائية تتخذ من مدينة نيويورك مسرحاً لها، مقابل دعوة الى متابعة شخصيات معذبة وقلقة تجد صعوبة التأقلم مع شروط اليوم بفعل ماضيها وما يستحضره من عذابات. إذ سيكون المشاهد البريطاني على موعد مع مختارات تلقي الضوء على مشاغل سكورسيزي السينمائية وتساؤولاته الفكرية، منها شريط "عصر البراءة"(1993)،والمقتبس عن رواية أديث وارتون. وفيه عودة الى عوالم المجتمع المخملي التي بدأت تتشكل ملامحها في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وعبر قصة حب تقليدية تجمع المحامي نيولاند أرتشر (دانييل دي لويس) والشابة ماري( وينوينا رايدر)، إلا ان مؤشرات حبه سرعان ما تنتقل الى قريبتها المتفتحة والليبرالية الكونتيسة أولينسكا (ميشيل بفايفر). ومن تلك الفترة نسترجع أجواء ما خلفته الحرب الأهلية، غداة منتصف القرن التاسع عشر، من مجاعات وصراعات بين عصابات المهاجرين الإيرلنديين لفرض سطوتها على منافسيها في"عصابات نيويورك" (2002). فيما يشكل سؤال الإيمان الروحي أحد معالم إشتغالات سكورسيزي في أكثر من عمل ضمن هذه التظاهرة، منها الإقتباس الرائع لعمل اليوناني نيكوس كازاناتزكي "الإغواء الأخير للمسيح" (1988) والذي قوبل بحملات تكفيرية إبان عرضه. ومثله ينقلنا شريطه "كوندون"(1997) الى سيرة الداي لالاما وتعاليم الديانة البوذية، وبما لم يرتق الى سمعة مخرجه. فضلاً عن شريط "الطيار" (2004) عن حياة الملياردير والطيار والمغامر هاوورد هيوز ومقتله المثير للتساؤولات. وغيرها من أعمال حفرت إسم صاحب شريط "سائق التاكسي"، والفائز بسعفة كان الذهبية عام 1976. ومثلما نبه هذا الشريط الى إسم أبن المهاجر الصقيلي وقيمة وأهمية عمله الفني، عبر وضعه على رأس قائمة الأسماء السينمائية القادمة من الجزء الغربي من القارة الأرضية. فانه أطلق أيضاً أسماء أبطاله الممثلين، روبيرت دي نيرو، هارفي كايتل وجودي فوستر الى عالم الشهرة. وفيه متابعة لدراما سايكولوجية تبحث في سلوك جندي سابق، من مشاة البحرية الأمريكية العاملة في فيتنام، يدعى ترافيس بيكل ( روبيرت دي نيرو)، وهوسه بتنظيف المدينة من رجس الفساد الرذيلة. العالم الداخلي لحامل الفضيلة يوقعه في فخ تناقض أخلاقي فاضح، كما نتابع، حين يقع في غرام شابة تعمل كبائعة هوى تدعي أيريس (جودي فوستر) عند السمسار سبورت (هارفي كيتل). وظف سكورسيزي في شريطه تعاليم مدرسة "الفيلم نوار" الكلاسيكية ولكن بصيغ جديدة، وعبر كاميرات ثابتة ترصد تغيرات المدينة وإنعكاسها على وجه بطله بفعل الإنارة الباذخة. إستعادة إشتغالات سكورسيزي في هذا الوقت مهمة، كونها تؤكد ان السينما قادرة على إرتياد فضاءات وعوالم وتنتهك حرمات في عالم اليوم الإفتراضي.
إنتهى....