TOP

جريدة المدى > عام > صدر عن المدى: تشيزاري بافيزي.. و"مهنة العيش"

صدر عن المدى: تشيزاري بافيزي.. و"مهنة العيش"

نشر في: 18 فبراير, 2017: 12:01 ص

ثلاثون عاما من الصداقة ، بدأت على يد ريجيس دوبرية وهو يحدثني في كتابه الرائع (مذكرات برجوازي صغير بين نارين وأربعة جدران )...توقفت ُ عميقاً عند الشذرة التي يتحدث فيها عن بافيزي.. بل غصتُ فيها ... بعد سنوات سأدس كتاب دوبرية في ظرف خاكي كبير، يحتوي كل

ثلاثون عاما من الصداقة ، بدأت على يد ريجيس دوبرية وهو يحدثني في كتابه الرائع (مذكرات برجوازي صغير بين نارين وأربعة جدران )...توقفت ُ عميقاً عند الشذرة التي يتحدث فيها عن بافيزي.. بل غصتُ فيها ... بعد سنوات سأدس كتاب دوبرية في ظرف خاكي كبير، يحتوي كل ما استطعتُ جمعه عن بافيزي :قصاصات جرائد ، صفحات مجلات منتزعة ، تصاوير ، صفحات  من صحف عربية..

ومعها كنت ُ قد حفظت ُ ذلك الكتاب الصغير عن بافيزة،الصادر ضمن (سلسلة أعلام الفكر العالمي المعاصر/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر / بيروت ) هذا الكتاب الصغير ، وشذرة دوبرية عن بافيزة  ، كنت ُ أخرجهما بين الحين والآخر ، كلما أشتقتُ للحديث مع تشيزاري بافيزة  .الآن وأنا احتضن كتابين من مؤلفات بافيزي  أسألني : هل يستحق الموت كل هذا التسرع من رجل عظيم مثل بافيزة ؟!  وأي قسوة في تلك الحبيبة التي أرتبط بها والتي مكثت تنبض فيه رغم مخالبها ،فقد عثروا في مكتبه بعد انتحاره مجموعة شعرية (سيأتي الموت وسيكون له عيناك ) كأنه للتو انتهى من كتابتها تدور حول حبيبته الممثلة الأمريكية كونتسانس داولينغ ....ألتقطت ُ هذه الوحدة السردية من روايته (القمر والنيران )..(أدركت ُ على التو معنى ألا يولد الإنسان في مكان وألا يسري هذا المكان في دمه ومعنى ألا يبقى في هذا المكان شبه ميت مع كبار السن ...) أتأمل هذه الشحنة السردية الملأى  بقوة مؤثرية المكان حسب منظور السارد الذي يتقمصه عملاق إيطاليا الأعظم بافيزي أو بافيزة حسب الترجمة اللبنانية ..وأتساءل أين كان غاستون باشلار وهو ينحت كتابه الأسطوري – شعرية المكان –  عن هذا الكلام .؟! ولماذا اقتصر باشلار على مرجعيات فرنسية في الصورة والإطار لكتابه ذلك ؟! وأين كان الاسلوبيون الروس عن قوله (الأسلوب هو الذي يعبّر لكنه لا يفسّر/ 196 ..(أسلوب القرن العشرين زاد الانفصال عن ستنادال الذي كان بدأ في زمن أقدم مع انطباعية الواقعيين . وحدث ذلك بالارتداد الى مفهوم الاسلوب الذي يرى به خالقوه في ليو باردي – ستنادال ، آخر أبطال البناء المدبج حسب الاسلوب الشائع ..) وبافيزي يرى أن همنغواي هو ستندال القرن العشرين الذي يعجبه في عظمة رواية موبي ديك هو الإيقاع ويستمر إنشغال بافيزي في (مهنة العيش ) وهو يناجي نفسه (فكرتك عن الأسلوب بوصفه حياة انسان روحية قيد البناء / 261).. ويستمر بافيزي يبحث عن بصمته الأسلوبية ، ويثبّتها نقطة في (مهنة العيش ) ويطوف حول النقطة ثم يخترقها بصمت وتمهل هامساً لنفسه ، طامحا لكينونة أسلبة خاصة وحميمة به وحده ..(أنت تهدف إلى أسلوب من ، كينونة ../527) ..يا الله ..أي هوس  وأي أرق يسكن هذا الروائي المنتصر على نفسه ..(ما يهم أي فنان ليس هي التجربة، بل التجربة الداخلية / 173)....تستوقفه جوهرة غوستاف فلوبير العظيمة ، أعني تلك الرواية الصامدة بوجه مؤثرية الزمن (مدام بوفاري ) .. شخصيا  قرأتها  في 1974 ثم في 1983 بترجمة الناقد محمد مندور ، وكذلك قرأتها في 1999..ولم يتوقف إنشدادي للتقنية أو لشخصية إيما بوفاري ، يستوقفني هذا التداخل بين كلمة الخطيب في الاحتفال وبين ما يجري من حوار بين إيما بوفاري وعشيقها وهما يستمعان لكلمة الخطيب في الاحتفال نفسه .. تستوقفني هذه الحرفية الخارقة لدى بافيزة ..(كن حذراً  من أن تأخذ على محمل الجد نقد فلوبير للواقع .إنه مبني على هذا المبدأ لاغير : كل شيء هو وساخة ، عدا الفنان حيّ الضمير/144)..لكن بافيزي ليس من المنغلقين على الجواني الغاطس في بئر النفس ، فهو يرى الآخرين ويفكرهم أيضا ً..(كل الناس يحملون في داخلهم سرطانا ينخرهم، إنحلالا يوميا : نقطة الصراع بين كينونتهم الحقيقية الهيكلية والتعقيد اللامتناهي للحياة / 103).. إلتقط ُ هذا الحجر الكريم وأتأمله ، ثم أحركه كمشكالا ..يتخذ أشكالا شتى فأرى وجوهها بشرية نكون مرغمين على التعايش معها في ضنك هذه التي تسمى حياة عراقية !! وهذه الطيبة التي كانت أسمها البصرة !! (الحماس المحترف هو أكثر أنواع النفِاق قرفاً / 253)..وتبقى الكتابة هي معشوقة بافيزة يسعى بكل مالديه من توق للتماهي فيها بحلول صوفي مطلق ..(عند الشروع بعمل فني . لاشيء جوهري أكثر  من أن يضمن المرء لنفسه ،، غنى وجهة النظر،، الطريقة الأكثر مباشرة ً، الأبسط للقيام بذلك هو الاستقاء من تجربة بعيدة وغير مألوفة ومقبولة ../ 316).. ورغم النهاية المأساوية التي أنهى بافيزة حياته فهو كان يقدر الحياة تقديرا جماليا عظيما ..(كل ترف لابد أن يُدفع ثمنه ، وكل شيء ، هو ترف ، وأول الترف هو كونك في العالم / 181)..هل ثمة كلام بعد هذا الكلام الحيوي  الباذخ ؟! وحين كتبه بافيزة من المؤكد شَعَرَه أيضا ،وأنغمر شعوريا بفيوضات اللحظة وكأنه أخترقها وهو على قمتها وأبصر الثمن المسفوك من ترفهه هو ولو بعد حين ..وإلا ّ كيف نفسر أنتحاره بعد فوز بجائزة (ستريغا) وهي أرقى التشريفات الأدبية الأيطالية على روايته (الصيف الجميل )..أليس هو الذي يعدد أنواع الفنون ويختمها كاتباً (فن الاستغناء عن الفن . فن أن تكون وحيدا / 180) ..إذن هنا يكمن مثنوي بافيزة حصريا ً..(قصصي تدور دائما حول الحب أو الوحدة ../ 173) وبتوقيت هذا المزاج المثنوي أنتصر روائيا وفشل عاطفيا مع الممثلة الامريكية كونستانس داولينغ ..والسؤال ضمن علم النفس الجنائي : من قاتل بافيزة بالإستعارة ؟! أليس حبيبته الممثلة الأمريكية ..التي ربما أستفزها تفوق عبقريته على إمكانيتها الفنية ؟ فأستغلت رهف مشاعره وعزفت عليها لتسلبه ليس فقط لذة الفوز بالجائزة ، بل نشوة الحياة التي كان يقدسها ويغمرها بحيويته المعرفية كلها ؟! ربما هي عرفت من خلال علاقتها معه ، ضعفه الناصع الجميل وبشهادة بافيزي نفسه (هل كنت َ غير ذلك الطفل الذي كنته يوما  129)؟ وهو الشاعر والناقد، والروائي هو والمترجم الكبير..أطروحته الجامعية  في 1930عن الشاعر الامريكي العظيم والت وايتمان ،في حقل الترجمة ، ترجم لعمالقة الأدب الانكليزي والامريكي : ديفو، ديكنز، جويس ، ملفيل، شتاين ، فوكنر..خلال أربع سنوات نشر َ ستة كتب : روايات ،قصص قصيرة، شعر، مقالات نقدية ، نُقلت أعماله إلى السينما والمسرح، وأصبحت رواياته مقرؤة في لغات كثيرة :الصيف الجميل ، القمر والنيران، الرفيق ، الشيطان فوق التلال .. وبافيزة من المثقفين العضويين اليسارين ، تصدى لفاشية موسوليني وحكمت عليه المحكمة في 1935 بالأقامة الجبرية  ..شخصيا بالنسبة لي كقارىء استمتعت بقراءة (القمر والحرائق ) ..يستوقفني هذا الإصرار المحتدم ، هذه الطلقة الكاتمة المدوية التي يوجهها بافيزة لحياته الخصبة :(لن أكتب بعد الآن ).. وبعد تسعة أيام أنتحر بجرعة مضاعفة من حبوب منوّمة في غرفة فندق ..والسؤال الأهم ماذا كان يفعل بافيزة :في هذه الايام التسعة ؟ هل كان يتزاور مع اصدقاء له ؟ كان يرّتب بعض أوراقه وهو يحرق مخطوطات أخرى ..هل أستروح الآخرون فيه : قراره الأخير ؟!  هل هناك مَن تصدى لشراسة القرار الصامت ؟ ألم يعكس هذا القرار عتمته في عيني بافيزة  في نبرة صوته في ارتباكات يديه ؟ هل قراره الأخير تشوقاً للذين يحبهم ؟! (ليس محزنا أن تموت بينما الكثير من أصدقائك يموتون ../269)..هل كان يتقدم نحو نهايته بوعي حاد كشفرة الحلاقة
أليس هو القائل (الشيء الوحيد الذي ينمو مع السنين هي قدرتك على الإنفصال ، لاعلى المقاومة .لأن قوقعتك ..صارت أضيق وأضيق / 128)..ومن وحدته ينبثق ذلك الغراب المدمى ، وهو لايخشى إنقضاضه ، بل تحليقاته ونعيق الجواني في الروح والنفس والعقل ..(الموت هدوء، لكن التفكير في الموت يعكّر صفو الهدوء/ 161)..أليس هو القائل (لاشيء يمكن أن يكون عزاءً للموت .كل ذاك الكلام عن المحتومية ، القيمة ، ثمن هذا الانتقال الذي يجعل من ذلك أكثر تجردا وأكثر رهبة ماهو إلا دليل على شناعته ، مثل ابتسامة ساخرة على وجه انسان محكوم / 251- مهنة العيش )..
*تشيزاري بافيزي / مهنة العيش / ترجمة عباس المفرجي / دار المدى / ط1/ 2016.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الحصيري في ثلاثة أزمنة

الهوية والتعبير الاسلوبي.. مشتركات تجمع شاكر حسن واللبناني جبران طرزي

موسيقى الاحد: احتفاليات 2025

تهـــــــريـــــج

رولز رويس أم تِسْلا؟

مقالات ذات صلة

رولز رويس أم تِسْلا؟
عام

رولز رويس أم تِسْلا؟

لطفية الدليمي كلّما سمعتُ شاعراً أو كاتباً يقول:"أنا كائن لغوي. أنا مصنوع من مادّة اللغة" كان ذلك إيذاناً بقرع جرس إنذار الطوارئ في عقلي. هو يقولها في سياق إعلان بالتفوّق والتفرّد والقدرة الفائقة على...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram