المخرج الفرنسي العظيم روبير بريسون (1901-1999) لا يصنع الأفلام فحسب ،بل يعطي أيضاً تعليمات حول كيفية مشاهدة أفلامه والتفكير بها. إن الجمع بين كتابين هما "بريسون عن بريسون: مقابلات 1943-1983 وكتابه "ملاحظات حول السينماتوغراف" المنشورة من قبل "نيويورك
المخرج الفرنسي العظيم روبير بريسون (1901-1999) لا يصنع الأفلام فحسب ،بل يعطي أيضاً تعليمات حول كيفية مشاهدة أفلامه والتفكير بها. إن الجمع بين كتابين هما "بريسون عن بريسون: مقابلات 1943-1983 وكتابه "ملاحظات حول السينماتوغراف" المنشورة من قبل "نيويورك ريفيو بوكس" هي من أوليات الفهم التدريجي لروبير بريسون إذا ما أعدنا صياغة عبارة جيرترود شتاين. صنع 13 فيلماً طويلاً فقط على مدى حياته الطويلة نادراً ما احتاج إلى مساعدين. في عام 1957 أعلن جان لوك غودار، وكان حينذاك ناقدا بارزاً، على أساس أفلام المخرج الأربعة الأولى، بأن "بريسون هو السينما الفرنسية مثلما دوستويفسكي هو الرواية الروسية وموزارت الموسيقى الألمانية".
عدّه المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي كونه مثالاً فنياً وقال في مقابلة معه بأن "المرء يجبر على اعتبار شكله الفني كالحياة والطبيعة نفسها".
لكن التقدير الذي لاقاه بريسون من قبل زملائه المخرجين ليس بالضرورة لا يشارك به المشاهدون بالضرورة، في الأقل خارج الولايات المتحدة. كان بريسون غير موجود بشكل حقيقي هنا حتى في أثناء ازدهار ونهضة الفيلم الأجنبي في الخمسينات والستينيات حين حقق أفضل أفلامه "يوميات قس ريفي"- 1951 وعرض في الولايات المتحدة 1954 "الرجل الهارب"- 1956 وعرض في الولايات المتحدة عام 1957 و"النشال"-1959وعرض في الولايات المتحدة عام 1963.
كان بريسون أصلاً رساماً وكان مؤيداً للسينما الخالصة، وهو الشيء الذي يتوسع به عبر كتاب "بريسون عن بريسون". في المقابلة التي أجريت معه في أثناء صنعه لفيلم "النشال" أكد على رغبته في "صنع فيلم عن الأيدي والنظرات والأشياء رافضاً كل شيء مسرحي".
وأضاف " الكثير والكثير في أفلامي، أحاول أن أكتم ما يسميه الناس الحبكة، الحبكة للروائيين". وفي مقابلة أجريت معه بينما كان يعرض فيلمه "النشال" أكد بأن "أفلامه يجب أن لا تكون فيها موضوعات نهائياً".
في الحقيقة كان بريسون يميل إلى التركيز على الشخصيات الفردية. أغلب أفلامه يمكن أن تشاهد كدراما عن العقيدة ودعوات للخلاص- كلاهما من جانب المخرج والشخصية المركزية التي هي في فيلم "بالثازار" ،الرائعة التي صنعها عام 1970، يصدف أن تكون حماراً.
قال لصحيفة "لو فيغارو" عام 1949 :"المهمات المستحيلة تجذبني". وقال في مقابلة إذاعية بالانكليزية في مهرجان كان عام 1962، إذ فاز فيلمه "محاكمة دون جوان" بحائزة الحكام الخاصة:" "من الجيد أن تخلق العقبات. أنا في الأقل لا أعمل جيداً من دون عقبات".
وبعد خمس سنوات أنهى محادثة مع الناقد جورج سادول بالقول ساخراً:" أتعجب إن كانت أفلامي تساوي الجهود التي تتطلبها" وربما كان يقصد الجهد الذي يتطلب منه لا من مشاهديه.
يفترض أن بريسون كان دينياً إن لم يكن يمارس الكاثوليكية على الرغم من أن هذه المسألة لم يجر تحريها بشكل واسع في كتاب "بريسون عن بريسون" (الكتاب الذي يستفيد منه بشكل كبير عن طريق تضمين فهرس). كان أيضاً أستاذ الاختصار. "أن تخلق يعني قبل كل شيء أن تشذب" قال في مقابلة عام 1960. لو زاوجنا أفلام بريسون ببساطة فإنها تقطر سرد الصورة المتحرك إلى جوهر خاص. إن مثال المشهد البريسوني المختصر والمقتصد يتجسّد في فيلم "لانسلوت البحيرة" – 1974، وهو رؤيا عن كاميلوت تتكون تماماً من الفرسان على صهوات الخيل يتبارزون في لقطات متوسطة أو كلوز آب (لقطات مقربة) يتميز الواحد عن الآخر عن بشكل كبير عن طريق تفاصيل درعهم.
"ملاحظات عن السينماتوغراف" (المنشور سابقاً عام1977 باسم المترجم نفسه جوناثان غريفين بعنوان"ملاحظات عن السينماتوغرافيا") هو تهذيب نهائي لفكرة بريسون عبر سلسلة مجموعة بشكل مفكك من الأمثال وعبارات الزن المنطوية على التناقض الظاهري ("مسار الصوت اخترع الصمت"). كل من هذه الكتب تعطي اهتماماً كبيراً إلى استعمال غير الممثلين الذين يشير لهم بريسون كونهم "موديلات". ابتداءً من فيلمه "يوميات قس ريفي" لا يتصرف ممثلوه، بل هم ببساطة.
استعمل بريسون مصطلح "السينماتوغرافيا" التي يُعرِّفها في كتاب "بريسون عن بريسون" "كنوع من الكتابة" كي يميز بين منهجه الخاص والطبيعية المسرحية الزائفة والسايكولوجيا الزائفة للسينما الشعبية. في مقابلة عام 1959 مع صحيفة "لا أكسبريس" رفض أيضاً عنوان "المخرج" كممتلكات للمسرح. (في المقابلة نفسها يشير إلى نفسه كونه "منظّم").
بعد أن سُئل كيف أخرج موديلاته؟ أجاب:" إنها لا تدور حول توجيه أي شخص، بل حول توجيه نفسك. البقية هي تخاطر. ("تشعر حقاً بأنه يحاول أن يفرغ ذهنه"، دومينيك ساندا أحد القلة من موديلات بريسون الذين استمروا على مهنة التمثيل وقد جرى وصفه مرة في فيلم وثائقي عن بريسون.)
غير أنه من بعض الاعتبارات كان حس بريسون بالسينما عرفياً تماماً. عباراته تعترف بالمونتاج أو التقطيع كونه أصل المعنى الأساسي للوسط. حين أعلن بأن "السينما يجب أن تعبِّر عن نفسها لا بالصور، بل بالعلاقة بين الصور" أو يتحدث باعتبار الإيقاع البصري، فإنه يردد أفكار سرجي أزنشتاين وبقية المُنظِّرين السوفييت ( على الرغم من أن هذا شيء لا يعترف به). مثل السوفييت أيضاً ميز بريسون الصوت كعنصر مادي ملاحظاً في كتاب "ملاحظات" بأن "الضجيج يجب أن يصبح موسيقى".
إن المقابلات في كتاب "بريسون عن بريسون" مجموعة بشكل تسلسل زمني ومنظمة عن طريق الأفلام يستطيع المرء من خلال قراءتها أن يرى بريسون يهذِّب إجاباته عن أسئلة مشابهة نشأت بشكل محتوم من كل إنتاج جديد، حتى لو كان يُشذِّب أسلوبه في صنع الأفلام. (المقابلات التي جرى تنقيحها وأعيدت للطبع من قبل بريسون قبل نشرها الأصلي، غالباً في الدوريات الفرنسية، هي مثيرة للعاطفة على نحو مطرّد.)
المقابلة الأطول والأكثر جوهرية هي الجدال مع السيد غودار والممثل ميشيل ديلاهي، المنشورة في مجلة "كاييه دو سينما" – دفاتر السينما- في أثناء عرض فيلم "بالثازار". هنا، يعترف بريسون بهوسه بما يسميه "الحقيقي" ويقول بأن"الإضاءة المزيفة غادرة مثل الحوار الزائف". هذه العواطف الفجَّة وحدها سوف ترسخ كونه صانع فيلم كلاسيكياً.
بالنسبة لبريسون فإن الصور المتحركة – التي تسجل قبل الثورة الرقمية في الأقل، ما يظهر أمام الكاميرا- كانت شكلاً من الحقيقة. إيمانه بالأفلام كونها وسطاً وثائقياً أساساً وموثوقاً به جوهرياً "الذي يعود بالماضي إلى الحاضر" هو "امتياز للسينماتوغرافيا". إن روح صناع الأفلام كانت أيضاً مكرسة لواقعيي السينما.
كتاب: بريسون عن بريسون
مقابلات 1943-1983
لروبير بريسون تحرير ميلاني بريسون مع مقدمة بقلم باسكال ميريغو
ترجمة آنا موستشوفاكيس
مصور 285 ص نيويورك ريفيو بوكس
كتاب:ملاحظات عن السينماتوغراف
روبير بريسون مع مقدمة لـ ج.م.ج. لوكليزيو
ترجمة: جوناثان غريفن ص
88 نيويورك ريفيو بوكس