كان الظلام مخيّماً في أرجاء البيت، كما هو الحال في معظم أحياء أم الربيعين التي شبعت من رائحة البارود والدخان، ثمّة ماء رقراق ينسدل هويداً، كظفيرة ناعمة، من حوافي النهر المتفرعة، ينساب على يد فهد بهدوء ليسقي زهر ساحلها ويغسل محياه من الدماء. بينما في

كان الظلام مخيّماً في أرجاء البيت، كما هو الحال في معظم أحياء أم الربيعين التي شبعت من رائحة البارود والدخان، ثمّة ماء رقراق ينسدل هويداً، كظفيرة ناعمة، من حوافي النهر المتفرعة، ينساب على يد فهد بهدوء ليسقي زهر ساحلها ويغسل محياه من الدماء. بينما في الضفة الأخرى من النهر، تقبع فتاة حالمة داخل بيت أصمّ تتزاحم على صفحات جدرانه المتآكلة، ذكريات الطفولة والدراسة، وأحلام مؤجلة قبل نهاية السطور، وقصة الفارس الجنوبي المعفّر بتراب الحرب، المتمرد على فنجان القصب والبردي، بعلياء وشموخً ليمرغ وجه الخنوع بتراب المواجهة، بعدما استقى من عذوبة الريف سكنى وحكمة.

تفتيش البيوت يفتح باب القلوب
فهد الشمري جندي في الفوج الأول منتسب ضمن جهاز مكافحة الارهاب الفرقة الذهبية العراقية، المتمرسة بحرب الشوارع، التقى بأسماء الطالبة الجامعية مرحلة رابعة علوم حياة، تركت حياة الدراسة بعد اقتحام تنظيم داعش لمدينة الموصل قبل ثلاثة اعوام، خوفاً على حياتها، هما عاشقان جمعتهما الحرب واقترنا زوجين مكللين ببرقع الحرية، بعد تحطيمه جدران عزلتها ومخبأها، هكذا انتهت حكاية العاشقين، لتبدأ فصول أخرى يرويها بطلها بنفسه. الساحل الأيسر يقع على ضفة نهر دجلة من مدينة الموصل، كان القتال مستعراً، وكان عناصر داعش يمارسون شتى انواع الترويع منها قتل الناس الرافضين لهم ولوجودهم ويقيمون الحد على العاصين منهم، وبشأن الكيفية التي تعرف بها فهد على اسماء ذكر لـ(المدى)، كانت أغلب القيادات في صفوف داعش من الجنسيات العربية إضافة الى الأجانب، والعراقيون لا يتعدون عن كونهم تابعين لهم لتنفيذ أوامرهم. مبيناً: بعد تحرير أول حي من احياء الموصل، لم تكن المهمة مسك الأرض، لكن خوف اهالي الحي، كان لابد لنا من تطهير المكان لجعله آمناً، بعد أن تركه داعش دون خدمات، يعاني من انقطاع الكهرباء الدائم. موضحاً: بين مقر السرية وموقع الحظيرة يقع بيت اسماء، قمنا حينها بتفتيش البيوت ومن ضمنها بيت أبو مهند ، أبو أسماء زوجتي.

امتناع والد اسماء
واسترسل الشمري: اثناء تفتيشنا لتلك البيوت، قمنا وزملائي بتهيئة الناس وطمأنتهم، كون داعش كان يوهم هؤلاء الناس بأن الجيش عندما يدخل سيسبي اعراضهم ويقتلهم وينكّل بهم. لافتاً: الى أن عناصر التنظيم الارهابي قاموا في مرات عدة، دخول الحي بهمرات وملابس عسكرية كي يوهموا سكانه بأن الجيش سيفعل ذلك بهم. مستطرداً: بعد توقف العمليات العسكرية لمدة أسبوع، كان علينا مواصلة الزحف باتجاه الأحياء الأخرى من الساحل الأيسر، لكن ذلك الاسبوع جعلني احظى بثقة سكان الحي بأجمعهم ومنهم بيت أبو اسماء الذي بات اشبه ببيت اهلي نظراً لاهتمامهم الكبير بي، حتى انهم باتوا يعرفون تفاصيل المخاطر التي اواجهها أكثر من أهلي.
وأضاف فهد: بكل امانة لم ارَ (اسماء) إطلاقاً قبل الزواج كون الحي كان مظلماً، وأذكر مرة عندما دخلت لبيتهم، التقي بوالدها لمحتها مرّت من أمامي ولم ارها بشكل واضح، ولم أكن اعلم قبلها بوجود امراة في البيت. مردفاً: فقد كانت (اسماء) أختاً وحيدة لأربعة أخوة. متابعاً: بقيت قريباً من أبي مهند والد (اسماء)، وصرنا نتحدث كثيراً ويروي لي معاناته مع داعش، وكيف ترك عمله بسببهم كي لايستعينوا به في تصنيع المفخخات كونه يعمل في محل "تورنة" ورشة لبرادة الحديد.
وأوضح المقاتل في الفرقة الذهبية: أن هذا العمل يصب في مصلحة الدواعش، وكيف أنه أوهمهم بأن لديه انزلاقاً في الغضروف أسفل الظهر، ولا يستطيع العمل نهائياً. منوهاً: الى امتناعه وعائلته عن اللحوم، بعد أن كان داعش يأخذ المواشي من المواطنين عنوة ويبيعها بأسعار رخيصة جداً تصل الى (5) آلاف دينار لسعر كيلو اللحم الواحد، مع أن سعره يتجاوز الـ(15) الف دينار. مبيناً: كان أبو اسماء ملتزماً دينياً ويتردد على جامع قريب منهم يسمّى جامع الزهراء، لكنه ترك الصلاة بالجامع بعد ان اقتحمه التنظيم وبات يلقي خطباً ومحاضرات مغلوطة عن الاسلام والمذهب الشيعي على الاهالي لغرض التشويش على افكارهم. مضيفاً: الامر الذي جعل الجميع ومنهم ابو مهند يلتزم البيت هو وأولاده خوفاً من تأثرهم بفكر داعش المتطرف، على أمل الفرج والخلاص من يد الإرهابيين.

فرحة غامرة ولحظة لن تنسى
الكلام مع فهد ينساب هويداً لكن حجزه في فندق بابل وسط بغداد الذي أتمَّ اسبوع عسله فيه انتهى وكان لابد له من حزم حقائبه استعداداً للسفر لمدينته الأم الناصرية التي ودعت 300 شخص في مجزرة قاعدة سبايكر المعروفة، وكان لابد لي من المرور على اسماء زوجة فهد وشريكته بهذه القصة، استقبلتنا اسماء بخجل ينبعث من عينين لايزال الخوف من الغرباء يغور تحتهما، وهي تتلعثم لتصف أولى لحظاتها، أنها لحظة فرح غامرة لا تنسى، فقد ارتبطت بالشاب الذي كنت أتمناه، لم اره قبل الزواج، فبين فداحة المعارك وقسوتها، والقدر المشؤوم الذي كان يرافقنا منذ دخول داعش المدينة لم اتوقع أن يأتي ليحررني فيتزوج مني.
تقول اسماء: كنا نعيش رعباً دائماً كلما نسمع نداءات التنظيم المتطرف، عند دخوله للمدينة، حيث عمد الى توزيع أشرطة فيديو على الاهالي، تحكي قصة اعدامهم وقيامهم بمجزرة سبايكر. مردفة: الأمر الذي قلب عليه الموازين في المدينة وتيقن الأهالي بعدها، بأنه تنظيم مجرم ودموي ولا يمت بصلة للإسلام. مضيفة: ابي رجل متدين، وعند دخول داعش قارن أفعالهم بتعاليم الإسلام، فتأكد له بالدليل القاطع، بأن هؤلاء لا علاقة لهم بالدين أو حتّى بمعنى الانسانية.
نهاية داعش وبداية السلام
واسترسلت اسماء: منذ دخول داعش للمدينة، وانا حبيسة داري لا أخرج منه ابداً. مبينة: أن عناصر التنظيم كانوا حذرين جداً وعلامات الخوف بادية عليهم حتى انهم يمنعون حتى بقاء السيم كارت في أجهزة الموبايل، خوفاً من نقل معلومات تواجدهم في الحي الذي كان يحتوي على 90 % منهم، من مجموع الدواعش الموجودين في الموصل. مستطردة: الآن تحررت، بفضل الجيش العراقي وفرسانه، ومنهم (فهد) الذي تزوجته وسأسكن معه حيث يريد، لن افارقه ابداً لأني احبه، فلولاه لم أكن سأخرج الى النور بعدما كنت محاطة بالظلمة.
فهد لم يكن يتوقع أن ينال زواجه بأسماء كل هذا الاهتمام. منوهاً: انه كان يسعى لإعطاء صورة حيّة لمدى التلاحم الانساني الذي يتمتع به الشعب عراقي، نترفع عن كل ما يضمر الأحقاد، وعن نزعة الشر، مستدركاً: نعم تزوجت بـ(أسماء) الفتاة الموصلية خلال ثلاثة اشهر من تحرير الساحل الأيسر في الموصل، تحدث وهو يظهر لي من خلال هاتفه الجوال خريطة الساحل الأيسر وموقع بيت زوجته (اسماء عبد الكريم زيدان الحيالي)، تلك الخارطة الخضراء التي احالتها أيدٍ تنفّذ تخلف عقول انغمست بالانحراف حتى توهمت بهذا الخراب جنة وحور عين ومن سيل الدماء وأنهار من خمر وعسل.