د. علي الوردينشرت لي احدى الصحف العراقية قبل سنوات معدودة مقالة تحتوي على عبارة ارى من المناسبات ان اعيد ذكرها هنا، وهي قولي: "لولا وجود انور باشا في تركيا في الحرب العالمية الاولى لكنت انا الان عطاراً في احد ازقة الكاظمية او كاتب عرائض فيها على احسن تقدير".
قد يسأل القارئ: ما هي العلاقة بين انور باشا في اسطنبول وعلي الوردي في الكاظمية؟ فقد كان انور باشا في اثناء الحرب العالمية الاولى اقوى شخصية في الدولة العثمانية بينما كان علي الوردي طفلاً صغيراً يلعب مع اقرانه في الازقة ويحيط به الفقر والبؤس، فكيف يمكن ان تنشأ اية علاقة بين هذين الشخصين؟! للجواب عن هذا السؤال اقول ان انور باشا كانت له اليد الطولى في ادخال الدولة العثمانية في الحربن كما شرحته في الجزء الرابع من كتاب "لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديثن ومعنى هذا انه لولا وجود هذا الرجل في الدولة العثمانية لما دخلت تلك الدولة في الحرب ولبقي العراق جزءا منها بعد انتهاء الحرب فترة من الزمن قصيرة او طويلة. ويجب ان لاننسى في هذا الصدد ان ابناء الفقراء من امثالي لم يكن متاحا لهم ان يدخلوا المدارس الحديثة في العهد العثماني ، وهم انما اتيح لهم ذلك بعد تأسيس الدولة العراقية واختيار فيصل الاول ملكاً فيها – كما سنأتي اليه. ومن الطريف ان اذكر في هذه المناسبة ان انور باشا زار العراق في عام 1916 عقب انتصار الجيش العثماني في الكوت وجاء الى المرقد المقدس في الكاظمية لزيارته، على نحو ما فعل في مرقد الامام ابي حنيفة والشيخ عبد القادر الكيلاني وخرج الناس لاستقباله بالهتاف والتمجيد حسبما جرت عليه العادة. وكنت حينذاك في الثالثة من عمري ولم اكن ادري ان هذا الرجل الذي احتفى به الناس كان له دور كبير في تقرير مصيري ومصير الالاف من امثالي ، تلك هي سنة الله في خلقه في كل زمان ومكان، فالانسان ليس له يد في صنع نفسه الا ضمن نطاق محدود جداً ، فقد تبين الان علميا ان تكوين شخصية الانسان هو حصيلة التفاعل بين مجموعتين من العوامل هما عوامل الوراثة وعوامل المحيط فالانسان يولد بصفات معينة في ملامح وجهه وبدنه وفي قدراته النفسية وتركيب اجهزته العصبية والهورمونية وغيرها، فتدخل هذه الصفات في بودقة البيئة الاجتماعية التي نشأ الانسان فيها منذ طفولته الباكرة، ثم في معترك الاحداث والمصادفات التي يمر بها وبذا تتكون شخصيته من حيث يريد او لايريد. مشكلة بعض الناجحين في الحياة انهم يصيبهم الغرور والزهو فيحسبون انهم صنعوا انفسهم بارادتهم وحسن تدبيرهم، انهم ينسون الظروف والمصادفات التي حلت بهم في حياتهم، كما ينسون الصفات الموروثة فيهم والتي مكنتهم من استثمار تلك الظروف والمصادفات. اعرف شخصا من هذا النمط مات منذ عهد قريب، فهو كان مزهوا بنفسه الى الدرجة القصوى ويحسب انه صنع نفسه بنفسه، انه كان ذكيا وسيما رشيقا ومن اسرة غير فقيرة، وقد احاطت به ظروف ساعدته على استثمار ذكائه ووسامته ورشاقته، فوصل الى وظيفة حكومية مرموقة، واخذ يتباهى بنفسه ويمشي مشية الخيلاء. ان هذا الشخص ينسى نعم الله تعالى عليه من حيث صفاته الجيدة التي ورثها من ابويه والتي لايد له فيها،ومن حيث الظروف الحسنة التي اتاحت له استثمار تلك الصفات الموروثة ، فهناك افراد من اقرانه قد نشأوا في اسرة فقيرة ما اضطرهم الى الكدح في طلب الرزق منذ طفولتهم، كما ان هناك افراداً اخرين كانوا مصابين بالدمامة وجوهم، او العوق في ابدانهم، او النقص في ذكائهم، وهم يكافحون طوال حياتهم من دون جدوى. اعتاد الناس على احترام الناجح وعلى احتقار الفاشل، ظناً منهم ان كلا منهما قد صنع نفسه بنفسه ، وقد ادى ذلك الى ظهور الكثير من معالم الظلم الاجتماعي بين الناس، فهم في احترامهم للنا جح قد منحوه اكثر مما يستحق، وفي احتقارهم للفاشل قد ظلموه اذ اعتبروه مسؤولا عن فشله. ان عدد البشر الذين يعيشون على وجه هذه الارض يزيد الان على الخمسة مليارات فكل واحد منهم له قصة حياة فريدة لاتشبهها قصة اخرى، وكل واحد منهم له شخصية خاصة به لاتشبهها شخصية اخرى. اوائل ذكرياتي كانت الحرب العالمية الاولى من اكبر الكوارث التي حلت بالعراق في تاريخه الحديث، وشاء القدر ان اكون في السنة الاولى من عمري عند اعلان تلك الرحب، ولهذا فان ذكرياتي الاولى عن الحياة التي نشأت فيها مليئة بالمرارة والألم الذي يصعب نسيانه. كان العراق عند اعلان الحرب جزءاً من الدولة العثمانية –اشرت اليه انفاً، وفي صباح 3 اب (اغسطس) 1914 فوجئ الناس في العراق وفي جميع الاقطار العثمانية بالطبول تدق على غير العادة، كما شاهدوا اعلانات على الجدران تنبئ باعلان النفير العام في الدولة وتدعو الجنود المسرحين الى الالتحاق بوحداتهم حالاً. كان والدي صائغاً يعمل في دكان قريب من بيتنا، وكان من الجنود المسرحين الذين شملتهم الدعوة، ولكنه لم يكد يسمع الدعوة حتى اسرع الى اغلاق دكانه وجاء الى البيت فأختفى فيه، وهذا هو ما فعله جميع الذين شملتهم الدعوة من امثاله. اخذت دائرة التجنيد تبحث عن والدي، والقت القبض على والده البالغ نحو ثمانين عاماًن وقررت انها لاتطلق سراحه الا اذا سلم ابنه نفسه اليها، فاضطر و
سر العلاقة بين اسطنبول والكاظمية؟
نشر في: 14 فبراير, 2010: 05:50 م