رغم مرور أكثـر من ربع قرن على انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، الا ان ما تركته من أثر على البنية الاجتماعية ما زال ماثلا في كل جنبات المدن والضيع والقرى ، جروح غائرة مكانها نفوس الناس الذين عاشوا المأساة ، ومعرفة مبكرة لضحاياها من الجيل اللاحق ، بعمق
رغم مرور أكثـر من ربع قرن على انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، الا ان ما تركته من أثر على البنية الاجتماعية ما زال ماثلا في كل جنبات المدن والضيع والقرى ، جروح غائرة مكانها نفوس الناس الذين عاشوا المأساة ، ومعرفة مبكرة لضحاياها من الجيل اللاحق ، بعمق مأساة ما جرى.
العديد من الأفلام اللبنانية تصدت لموضوعة الحرب وأثرها على المجتمع مثل ، الحروب الصغيرة ، وخارج الحياة ، لمارون بغدادي، وبيروت الغربية لزياد دويري، وهلا لوين ، لنادين لبكي… إضافة الى عدد من الأفلام الوثائقية .
ليأتي المخرج فاتشي بولغورجيان ، متناولا ذات الموضوع ،ضياع الهوية تيمة لفلمه " ربيع " الذي عُرض في مهرجان دبي السينمائي الـ13 ونال استحسان واعجاب الجمهور ، طارحاً كمّاً كبيراً من الأسئلة التي تبحث في عمق الهوية وحقيقية الانتماء .
الشاب ربيع " بركات جبور " ضرير يعمل مع احد الفرق الموسيقية ، يعيش مع أمه " جوليا قصار " فازت بجائزة أفضل ممثلة عن دورها هذا ، وخاله " توفيق بركات " لا شيء ينغص عليه حياته ، بسبب كمية الحب التي تحيطه ،سواء من أهله او أصدقائه ، مستمتع في دراسته وعمله كموسيقي وقارئ ومطرب موشحات كذلك ، لكن كل ذلك يتداعى بلحظة اكتشافه ان كل الذي حوله ليس سوى مجرد حلقة عطف لصبي أعمى ، خلّفته الحرب ، من دون ذكر او معرفة بنسبه او المدينة او القرية التي ولِدَ فيها ، الاكتشاف جاء بعد ان تتلقى الفرقة الموسيقية التي يعمل فيها دعوة لعمل جولة في أوروبا، وينبغي على ربيع ان يستخرج جواز سفر ، فيكتشف ان بطاقته الشخصية مزوّرة ، ولولا كونه أعمى لسُجن بسببها ، خاله المتنفذ بعض الشيء ، هو مَن زوّر له الوثيقة ، كذب الأم ومحاولتها إقناعه بأن خاله سيخرج له بطاقة شخصية حقيقية ،ومن ثم جواز سفر لا ينفع ولا يحد من قلقه ، وطرحه الأسئلة العديدة عن هويته وأصله ، وحقيقية نسبه ، ليكتشف ان لا الأم أمه ، ولا الخال خاله ، ولا المدينة مدينته ، من أين جاء إذن ، ليبتدئ رحلة بحث لا تعطيه أجوبة ، بل تعطيه يقيناً كاملاً ان لا أجوبة لأسئلته ، بل يتعرّف على حجم وحقيقة ما جرى ، وبشاعة المعارك وما خلّفته ، في بلد مهدّد بأن تندلع حرب أخرى فيه في أية لحظة ، بلد مبعثر .
" ليس أنت ، يا موطني ما ترسم خارطة ، ترسم كرسي وعلم وحدودك ، لمخبطه " بيت الشعر الشعبي هذا ، كتبه عراقي ، أدرك هو الآخر حجم الخراب الذي يعيشه العراق ، وفقدان روح المواطنة التي سببتها الحروب ، ومات بعد كتابته كمداً .
بعد رحلات عدة لمختلف القرى والضيع ولقائه بالعديد ممن قد يتوفرون على معلومة ما قد تقوده الى معرفة حقيقية هويته ، وأهله ، او على الأقل مدافنهم ، كونهم ربما ماتوا في الحرب
شيخ الضيعة ، لا يتعرف عليه ولا يتذكر شيئا عن أهله ، بل لا يعرفهم ، يشعر بالإحباط نتيجة ذلك ، وكلام الشيخ الذي لخص الكثير " كثير جيوش أجوا وفلوا " بمعنى تقاتلوا ودمّروا كل شيء من اجل لا شيء ، فلم تأتِ هذه الحروب وجنودها إلا بالخراب ، ولم تُبنَ بناية جديدة بعد الحرب.
في النهاية يستسلم ربيع لواقع الحال ، ويعرف حقيقة وضعه الجديد ، لكن الشاب الأعمى ، اصبح يبصر ، ما حلَّ بوطنه ، فهل يبصر الوطن وناسه خطورة الحرب ؟
فلم ربيع ، لا يحتاج الى تأويل لنصه المرئي ، كونه يأخذنا بمباشرة واضحة الى الحدث ، ولكن بشكل مدروس ، هنا لا مفاجئة ، بل هنا دفق حزن كبير ، ربما نكون متعاطفين مع ربيع الضرير ، او ينتابنا الحزن على بلد ، كان في يوم ما من أجمل البلدان العربية ، لكن التعاطف والحزن لا يجدي دائما ، وكذلك يطرح علينا مجموعة أسئلة ، وان تكن غير مباشرة ، هل يمكن للأم البديلة ان تكون بذات حنية الأم " البلاد البديلة ، الغربة في ذات البلد ، ماذا عن تساؤل الآخرين عن نسب او انتماء شخص ما الى أي ارض ، من اين جاء ؟ وهي بذات الوقت الأسئلة ذاتها التي يطرحها ربيع طوال مدة الفلم .
اختيار بولغورجيان لممثل ضرير حقيقي، ساعده كثيرا في إيصال رسالة فلمه ، فاختيار بطل أعمى لم يأتِ اعتباطاً ـ بل فيه دلالة الإشارة الى العمى الذي يصاب به الجميع وقت اندلاع الحروب- خصوصا الأهلية منها .
فلم ربيع فاز بجائزة الجمهور ضمن «أسبوع النقّاد» في «مهرجان كان السينمائي» 2016 ، كذلك جائزة اكتشاف موهبة جديدة عن الفيلم الروائي الطويل الأول في «مهرجان نامور للفيلم الفرنكوفوني» في بلجيكا.
لن يكون فلم بولغورجيان ، الفلم الأخير الذي يتناول موضوع ضياع الهوية وأثر الحروب على المجتمعات ، فالموضوع يحتاج الى الكثير من الأفلام ، ونتمنى ان تكون بذات الجودة التي كان عليها فلم ربيع .
ربيع من إخراج فانشي بولغورجيان ، تمثيل ، جوليا قصار ، بركات جبور ، توفيق بركات وميشال اضباشي.