كنت في زيارة لمتحف ماوريتسهاوس بمدينة لاهاي، للإطلاع كالعادة على بعض الكلاسيكيات الهولندية المعروضة هناك، وبعد مرور بعض الوقت بين لوحات في غاية الجمال والتقنية والحضور الآسر، توقفت امام لوحة فرمير الشهيرة (الفتاة ذات قرط اللؤلؤ) التي تعتبر موناليزا الشمال، وأشهر وجه هولندي مرسوم على مَرِّ التاريخ. وقفت هناك وسألت نفسي إن كانت هذه اللوحة أصلية ام لا؟ وهل هي تعود بشكل مؤكد للرسام العظيم فرمير؟ ضحكت من شدة ولعي بهذه التفاصيل وحاولت ان أبعد عن مخيلتي وذاكرتي الرسام الغريب هان فان ميخرن (١٨٨٩-١٩٤٧) الذي اشتهر بتزوير العديد من لوحات فرمير بطريقة لا يمكن كشفها أبداً.
هذا الرسام الذي قرأت سيرة حياته وشاهدت مجموعة من أعماله، فَعَلَ فِعْلَ السِّحر في الأوساط الفنية، وأثار الكثير من اللغط والجدل خلال السبعين سنة الماضية، وابتدأت حكايته حين كشف بنفسه عن واحدة من لوحات فرمير (المسيح والمرأة الزانية) وادّعى بانه هو الذي رسمها، ثم طرحها وروَّجَ على انها من ضمن اعمال فرمير غير المكتشفة. وهكذا وقف كل رجال المحكمة على أطراف أصابعهم وهم يسمعون تصريحاته التي بدأت تكبر وحكايته التي أخذت تتصاعد، حتى امتلأت قاعة المحكمة بعد فترة من الوقت، بمجموعة كبيرة من لوحات فرمير التي جُلِبَتْ من المتاحف، حيث ادّعى هان بأنه هو الذي رسمها كلها. كان عليه ان يعترف بالتزوير لأن الشرطة الهولندية قد عثرت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية على لوحة فرمير آنفة الذكر، ضمن مجموعة النازي هيرمان غورينغ، وهو الرجل الثاني بعد هتلر، وعثروا على وصل شرائه اللوحة الذي يُشير الى ان البائع هو هان نفسه! وهكذا كان على هان ان يواجه الحكم بالسجن عشر سنوات بتهمة التعاون مع النازيين، او السجن سنتين بتهمة التزوير، لذلك اعترف بالتزوير كي يخفف عنه الحكم، وقتها لم تثق الشرطة بكلامه، لأنه ليس بإستطاعة أي رسّام ان يزوّر اعمال فرمير بهذه الطريقة المحكمة، بل الفذّة، لكنه سَهَّلَ الأمر عليهم حين أشار الى ان القدح والإناء اللذين يظهران في اللوحة هما أنفسهما الموجودان في مرسمه فوق المدفأة. ثم طلب منهم ان يحضروا له المواد التي يحتاجها وسيرسم لهم واحدة جديدة (قديمة) من أعمال فرمير. فوافقت الشرطة ووضعته تحت الحراسة في عليَّة بيته ليقوم بالمهمة، وهكذا خرج لهم بعد فترة من الوقت بلوحة تبدو أصلية فعلاً وبكامل تقنية فرمير.
اكتسب هان فان ميخرن شهرة كبيرة بسبب تزويره لوحات فرمير، وهذه الشهرة انعكست حتى على أعماله الفنية الشخصية التي كان يرسمها، حيث نجحت لوحاته بعد وفاته وأصبحت اسعارها عالية جداً، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل امتدت المفارقة الى أبعد من هذا بكثير، حيث قام الكثيرون بتزوير لوحاته وبيعها بأثمان جيدة بعد ان كان هو الذي يزوِّر لوحات الآخرين! بل وصل الأمر الى انّ رايكس ميوزيام الذي يعتبر أعظم متحف في هولندا قد قام سنة ٢٠١٤ بشراء قناع الموت الذي صُنِعَ له بعد موته بلحظات، باعتباره أحد الشخصيات الفنية الشهيرة.
سيبقى الكثير من الجوانب المتعلقة بحياة هان غامضة ولا يمكن حلها بسهولة. وحتى ابنه جاك الذي تعلّم الرسم في مرسم أبيه وأصبح رساماً، تحيط حياته بعض الأسرار، فقد لاحظ الخبراء أن بعض لوحاته عليها توقيع هان نفسه، مثلما ان بعض لوحات هان عليها توقيع ابنه جاك!! ولم يعرف أحدٌ القصد من ذلك، هل هو جزء من الغموض والإيهام الذي يحيط بحياة هان أم أن الولد على سرِّ أبيه؟
عُدْتُ أتأمل لوحة الفتاة صاحبة قرط اللؤلؤ، وأحاول أن أبعد عن ذهني إمكانية التفكير كونها غير أصلية، لأن هذه اللوحة بكل بساطة مشهورة ومعروفة قبل ولادة هان بإكثر من ثلاثمئة سنة. أتَأَمَلُ هذه النظرة الشاردة ثم أُحَيّي اجمل وجه في هولندا وأخرج بهدوءٍ من المتحف.
أجمل وجه في هولندا
[post-views]
نشر في: 3 مارس, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...