لا أعلم حقاً كيف تختار الأكاديمية الأمريكية، المواقع للمرشّحين للفوز بجوائزها «الأوسكار» كل عام، وما لم استوعبه في هذه السنة بالذات، اعتبار الدور الذي أدّته «فايولا ديفيز» في شريط «أسوار» من بطولة وإخراج «دين
لا أعلم حقاً كيف تختار الأكاديمية الأمريكية، المواقع للمرشّحين للفوز بجوائزها «الأوسكار» كل عام، وما لم استوعبه في هذه السنة بالذات، اعتبار الدور الذي أدّته «فايولا ديفيز» في شريط «أسوار» من بطولة وإخراج «دينزيل واشنطن». ديفيز، التي تؤدي في هذا الفيلم دور «روز» كانت مُرشّحة لأوسكار الدور المساعد وفازت به بالفعل.
فيما كان مرشّحاً واشنطن، الذي أدى، بالإضافة إلى إخراجه الفيلم والاشتراك في كتابة السيناريو، دور الزبّال «تروي ماكسون»، مرشّحاً لأوسكار أفضل أداء رجالي، ولم يفز به.
وفي حقيقة الأمر، فإن ما أدّته «ديفيز» في هذا الفيلم، هو الدور الرئيس الحقيقي، ولم يكن دينزيل واشنطن إلا المرآة التي زادت في توضيح صورة النجمة الأوسكارية، والتي تفوّقت على زميلها سواءٌ في كثافة الأداء أو في الحضور، رُغم «جسامة» الحضور الجسدي لشخصية دينزيل واشنطن.
في أحد حوارات الفيلم تؤنّب «روز» ولدها الذي يبوح لها بعدم رغبته حضور جنازة الأب: “إعْلَمْ يا ولدي بأن والدك كان من الضخامة بدرجة ملأ فيها كل مساحة البيت ولم يُبقِ لي أي فضاء.. أنا اخترت القبول بذلك وملأت ما كان يترك من فراغ..”.
ملأت «فايولا ديفيز» فضائين، أوّلهما فضاء الشاشة في مقابل - مواجهة عملاق تمثيلي كبير مثل «دينزيل واشنطن» وبرزت كالشمس التي تدور حولها الكواكب، وما كان واشنطن، إلاّ واحد من هذه الكواكب. أما الفضاء الآخر الذي ملأته «فايولا ديفيز»، فكان الفراغ الذي نشأ وتعاظم في داخل «تروي ماكسون- دينزيل واشنطن» حين خانها ونام مع امرأة أخرى أنجبت له في لحظة موتها طفلة سمراء كولديه الآخرين.. وحين يعود «تروي» إلى المنزل حاملاً بين ذراعيه الطويلتين وكفّيه الكبيرتين كومة لحم صغيرة هي الطفلة التي ولدت للتوّ ولن يكون لها أمّ، تتعملق «روز» وهي متماثلة مع كينونها كامرأة وأمّ في آن، تحمل الوليدة بين ذراعيها وتدخل بها إلى المنزل مُصدرة قرارها المهيب: “لن تكون هذه الطفلة منذ الآن دون أم، لكنّك، أنت، ستكون دون امرأة..”. ليس قرار «روز» هذا انتقام من «تروي» بسبب الخيانة، بل إقرار لنهاية استحقاقه حباً استمرّ لثمانية عشر منحت خلاله لمن أحبّت كل شيء، وظهر جليّاً لها أنّه ما عاد يستحق ذلك الحب، لكنّها عندما تواجّه الابن الذي يرتدي بُزّة «المارينز» الزرقاء، تُعيد إلى ذهنه ما عنى «تروي» لها، له وللعائلة بأسرها “لقد كان والدك يُريد لك أن تكون ما كان يريد لنفسه أن يكون، وألاّ تكون ما انتهى عليه هو…”.
وبعيداً عن تحميل تلك الجملة التي كتبها المسرحي آوغوست ويلسون (1945 - 2005) في عام 1983، وأبرزها دينزيل واشنطن بقوّة في الفيلم، فإن فيها تذكيراً للقيم والجذور التي ينبغي أن تقوم عليه الآصرة في مجتمع مصغّر، كالعائلة، وما ينبغي أن تكون أهمية تلك القيم في فضاء أوسع، كمجتمع بلد ما. “لن أغفر لك إنْ تجاسرت واقترفت هذا الذنب تجاه والدك في لحظة جنازته…”. وحسناً فعل دينزيل واشنطن أنّه لم يُظهر الجنازة واستبق نهاية الفيلم بجملة للأخ الذي يطلب من الأخت، غير الشقيقة، أن تنتعل الحذاء الذي طلبت منها الأم انتعاله وأن تُصغي “لما تقوله الماما…”، وأنهى الفيلم بعناق بين الصغيرة وأخيها غير الشقيق.
فيلم «أسوار» مقتبس من مسرحية لآوغوست ويلسون بذات العنوان، وفازت في عام تأليفها وعرضها الأول بجائزة «بوليتزر». إنّه عمل عسير على النقل إلى الشاشة، وربّما كان هذا هو بالذات السبب الذي حال دون أن يستكمل الكاتب ويلسون نصّه السينمائي على الرغم من أنّه اشتغل عليه لما يربو على ثماني سنوات، واستكمله دينزل واشنطن بجسارةِ وجرأة النجم، مقتنعاً بأن حضوره على الشاشة سيُخفّف من وطأة الحوارية المسرحية ومن طول تلك المشاهد الحوارية الضرورية للتعريف بالشخصيات والأواصر التي تربط ما بينها.
«تروني ماكسون» عامل جمع القمامة في بلدة «بيتسبورغ» في الثالثة والخمسين من العمر، وهو لاعب بيسبول سابق، ومُقتنع من أنّه كان الأفضل وقد أُقصي من اللعب لكونه أسود البشرة، إذْ لم يكن ذلك المجتمع الخمسيني يرضى بنجم كبير في اللعبة «القومية» بامتياز، لذا لم يكن للعنصرية إلاّ أن تفعل فعلها وتُبعده عن مستطيل اللعب، لتنتهي به الحال إلى السجن لفترة وليعود إلى الحياة كنّاساً برفقة صديق العمر «بونو» ليُفرغ صناديق القمامة الثقيلة التي يملؤها الأغنياء كل يوم. تروي مملوء بالخيبات المتكرّرة وبقدر كبير من الغضب على عالمه الذي تشكّل أولاً من والده السكّير والعنيف، ومن مجتمع البيض الذي أقصاه رُغم قدراته الهائلة، وهو يكافح اليوم من أجل «الارتقاء» من موقع الزبّال إلى «منصب» سائق شاحنة جمع القمامة، الحصري للبيض.
يغرق «تروي» في لُجتّي بحرين متلاطمين، أولّهما الخمر الذي يحتسسه كما يشرب الماء، وتُنجده من الغرق العائلة ورفيقه «بونو» في كل مرّة يُبالغ فيها في الشرب، أمّا اللُجة الثانية، فهي لُجّة الغضب الذي يبلغ في بعض الأحيان قسوة هائجة ومخيفة، وتنتهي به الحال إلى صبّ جام غضبه على إبنه الأصغر الحالم بلعب البيسبول. «تروي» المقتنع بالمطلق بأن «البيض» لن يُتيحوا لهذا الصبي الأسود أن يبرز، فهو لا يُريد لإبنه أن يذرق ذات المرارة التي ذاقها في حياته ويريد له أن يعمل في «السوبر ماركت» وأن يُكمل دراسته ليتبوأ المركز الذي يُحقق له الكرامة ويُجبر الآخرين على احترامه، لذا فإنه يرفض التوقيع على الترخيص للابن أن يتدرّب مع الفريق.
هذا القرار يولّد لدى الابن بأن والده لا يُحبّه، أو بالأحرى يكرهه، وتنتهي المشاجرات فيما بيهما بالاشتباك وطرد الإبن من البيت، ما يدفع الشاب إلى الالتحاق بقوة «المارينز» ولا يعود إلى المنزل إلّا بعد مرور ست سنوات، وبالذات في يوم جنازة «تروي».