ثلاثية تبدو غريبة إن لم تكن مثيرة. هي ليست مفتعلة، على أيّ حال، وليست عفوية ايضاً! أردنا بها درساً يتكامل بسواه وحقل دراسات غير معزول عن بيئته وأن يتضح مثال على تكامل الفكر والأدب والواقع الاجتماعي.مسزز كاسكل Mrs. Gaskel روائية انكليزية وكاتبة سيرة م

ثلاثية تبدو غريبة إن لم تكن مثيرة. هي ليست مفتعلة، على أيّ حال، وليست عفوية ايضاً! أردنا بها درساً يتكامل بسواه وحقل دراسات غير معزول عن بيئته وأن يتضح مثال على تكامل الفكر والأدب والواقع الاجتماعي.

مسزز كاسكل Mrs. Gaskel روائية انكليزية وكاتبة سيرة معروفة في عالم الأدب. ربما هي مجهولة إلا قليلاً في عالمنا العربي، وإن كانت ضمن مناهج اللغة الانكليزية والأدب الانكليزي في الجامعات العربية وفي جامعاتنا حتى تركتها في أول الستينيات..
السيد انجلز قطب عظيم الإضاءة في الفلسفة المعاصرة كما في الأحزاب الاشتراكية جميعاً. واسمه لا يمكن أن يغيب عن الدراسات الماركسية. وأظن "أصل العائلة" كتاباً يعرفه الجميع.
ومدينة مانشستر Manchester مدينة كبيرة الشهرة في الصناعة كما في تاريخ الحركات العمالية. تقع هذه المدينة شمال غرب انكلترا وعُرفت بصناعاتها الجلدية والكيمياوية والأشهر الأكثر بصناعة النسيج.
انجلز وصل مانشستر في تشرين الثاني 1842 والسيدة كاسكل هناك في تلك المدينة (سنأتي على التفاصيل ...) وقد اتضحت من بعد تفاصيل المدينة والناس في رواياتها. لقد تحدثت، بالكتابة الأدبية، عن حياة العمال وفقراء المدينة وعذابات العيش. أي عن المشاعر الطبقية تجاه أصحاب المصانع. عن العوّز المِّدمر والأوبئة أمام الغنى المفرط والسلطان. تحدثت عن أسوأ ظروف عمل وعن تعاسة الناس وبؤسهم المُهلِك.
المفارقة، أن انجلز وصل للمدينة مرسَلاً من والده صاحب مصانع النسيج الثري. جاءها من "رايتلاند" ليدرس مشاريع العمل وآليات وأساليب العمل في مانشستر. بقي هناك سنتين، ورأى المدينة قاعدة صناعية وأنها الفُضلى لدراسة الواقع الصناعي ومعرفة حقائق العمل والصناعة وتأثيراتها. غادرها مرتين، لكنه عاد لها ليتأكد أنها أنموذج لشؤون الصناعة. وحين قارب موعد مغادرته لها، كان قد أكمل مخطوطة هي واحدة من كلاسيكيات العالم الحديث: "ظروف الطبقة العاملة في انكلترا في 1844". وربما كانت انكلترا الاسم الخطأ لما يتحدث عنه. فالكتاب مرجع مهم لمدن أخرى، فضلاً عن مانشستر. ثمّة اشارات مهمة كثيرة لمدن الشمال الصناعية وجلاسكو. وفي هذا الكتاب دراسة عن إضراب عمال النسيج في توتمبرلاند. لكن في اهتمامه الأكثر بمانشستر، أراد ايضاح حقيقة لا يمكن نكرانها هي:
أن العمال على عتبة حرب مع أرباب العمل !
انجلز أوّل شخصية أجنبية متميزة تزور مانشستر، وهو أوّل من كشف أن العلاقة بين العامل ورب العمل هي علاقة تضاد وتنافر وإنها بإيجاز عدائية.
مانشستر كانت مكاناً واضحةً فيه الخلافات الاجتماعية والسياسية، واضحاً فيه تنافر الأضداد والمصالح الاقتصادية بين مالكي مصانع النسيج (والد انجلز صناعي نسيج) وبين العمال. أي بين مالكي المصانع وأيدي النسّاجين. نحن الآن في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، أي بعد 1830.
بعد هذا التاريخ صارت عبارة "ظروف العمال" أو "ظروف الطبقة العاملة" ومثيلاتهما، عبارات متداولَة في الكتابات الاجتماعية والصحفية ودخلت في البحوث الفلسفية. انجلز، لا غيره، في كتابه ذاك، جعل القرّاء  يواجهون "حقائق" الحياة الاجتماعية في مانشستر وكشف ما تعنيه المدينة بالنسبة له.
نبدأ الآن حديثنا عن شريكته في معايشة الظروف في تلك المدينة وشريكته في الكتابة عنها: مسزز كاسكل Mrs. Gaskel، هي الشخص الثاني الذي رسم حقائق مانشستر. لقد قدمت تخطيطات دقيقة ونافذة عن الأحوال الاقتصادية وظروف الناس التعيسة والأوبئة التي أصابت المدينة القديمة. الفصل الذي قدمته في روايتها ماري بارتون Mary Barton ، جاء صفحاتٍ مفزعة عن العدد الكبير من الموتى وعذابات الناس. فالسيد بارتون يموت ويموت بن ديفنبورت وكذلك التؤم ولسن. وهناك اطفال لا حول لهم "لِطاف لا يفهمون" كما يسمونهم، يعطونهم "خلطة كودفراي" التي تسبب البلاهة والاضطرابات العقلية وتدخلهم في "كورس مركز" في التهاب الامعاء والتهاب الغدد وفقدان الوعي . هذا هو علاج الأطفال اللطاف الذين لا يفهمون ... هذه الرواية أثارت السيد كري Grey ومجموعته، فوصفوها بأنها تقف الى جانب انجلز وإنها تسخر منهم.
بدأت السيد كاسكل هذه الرواية "ماري بارتون" بعد موت ابنها المتبنَى بقليل. فهي ليست ظروفاً سيئة حسب، ولكنها تعاسة بشر وجوع وأمراض وموت مخيف في مدينة المصانع!
التفسير بأنها أرادت أن تكشف في الرواية  إيمانها المسيحي: "اننا كلنا بين يدَي الله ورحمته .." ه تفسير تشويهي قاصر فيه حَرْف قسري للرواية. فأحد الموتى ابنها! والظروف تعيسة والناس لا تستطيع أن تعيش. اكثر من هذا، ولوضع الأمور في نصابها الصحيح، إن العنوان الفرعي للرواية هو
"حكاية عن الحياة في مانشستر"
فيكون العنوان كاملاً :
ماري بارتون
حكاية عن الحياة في مانشستر
وأن الرواية كتبت في زمن تصاعد الوعي الطبقي وكشوفات انجلز الطبقية!
أوّل ما تعرفت على "مسزز كاسكل" كان في 1959 ، في دار المعلمين العالية، حيث كانت ضمن منهاج الرواية الانكليزية، هي وجوزف كونراد .. ثم تابعتها في مكتبة المعهد البريطاني في الوزيرية، قريباً من العالية آنذاك. وحصلت على كتاب نقدي يعرّف بها وعلى رواية ثانية لها بعنوان "كراندفورد Crandford " ، ما تزال في مكتبتي وفي طبعتها القديمة برسوم A.A. Dixom وتقع بستة عشر فصلاً أوّلها عنوانه : "مجتمعنا" Our Society .. وهي رواية اتمنى أن أجد فرصة لاتحدث عنها يوماً بالتفصيل.
ما أثارني للكتابة اليوم، هو إدراكي لأهمية هذه الكتابة في ظل انجلز وبمعاصرة ديكنز وكارلايل. أردتُ أن أصل بين الأدب والفكر المجايل له أو بالعكس. واستكمالاً لما أشرت له، اجتهد لأقول شيئاً عن كراند فورد، روايتها الثانية. بمنظور خاص. كراند فورد ، الخيالية ، تبدأ بعالم أمازوني، النساء يحكمن. لعلها ضمناً تلوم الرجال على خضوعهم واستسلامهم لأوضاع اجتماعية متردية وتعاسة عيش، وأن غالب الرجال عمال نسيج أو عمال جلود أو كيمياويات. هي سحبت العمل للنساء لإظهار حيويتهن ورفضهن لواقع الرجال. لكن هذا اجتهاد شخصي أقوله متأثراً بجو مانشستر وأفكار انجلز وما كتبته هي في روايتها السابقة ماري بارتون وبالكتابات الأدبية حواليها قد يكون أبرزها رواية ديكنز "اوقات عصيبة" Hard Times . لكن هذا ما ورد في الفصل 11 من روايتها وهي تتحدث عن مدينة كرانفورد حديثاً يبدو تتمةً للحديث عن مانشستر:
" لا جديد يمكن اكتشافه عن الاهتمام بفقرهم. لقد تحدثوا ببساطة ووضوح عن الضروريات الاقتصادية لحياتهم. فليس بعد غير رقّة قلب رئيس العمل والحالات التي، دون أن يعي نفسه، يعلنها ! لكننا أيضاً، نعلن كيف كان يأخذ عشاء النسوة الفقيرات من أيديهن! ..."
وإن كنت لا أقرُّ بسلامة سلخ شواهد عن سياقاتها، لكني لا أشك بالأجواء السائدة في هذه الرواية، التي تبدو خيالية، من احتدام غضب واستياءات وسوء أوضاع وتدهور. والأهم الأوضح هو طبقة قوية تصعد وطبقة تزداد انسحاقاً. وهذه فقرات انقلها عن الموسوعة البريطانية: ولمسزز كاسكل رواية ثالثة هي " شمال وجنوب" North and South  وهي عمل عن الثورة الصناعية نشرتها أولاً فصولاً في مجلة يصدرها ديكنز Household Words ثم ظهرت كاملة في كتاب سنة 1855. كما كتبت سيرة حياة شارلوت برونتي بمجلدين. هذا العمل الأخير أكسب السيدة كاسكل مكانةً بين كتّاب السيرة الانكليز. في 1863 نشرت كاسكل روايتها الطويلة "عشاق سيلفياس" Sylvias Lovers. وفي العام نفسه ظهرت لها أعمال روائية صغيرة، من ذوات الفصل الواحد، : "عمل ليل مظلم" و "العم فيليبس" و "حكايات أخرى". توفيت في تشرين الثاني 1865 ودفنت في الكنيسة التي كتبت عنها يوماً، كنيسة الموحدين الصغيرة...
نقلت هذه الفقرات الطويلة عن الموسوعة البريطانية لأكشف الجو الفكري والأدبي المتواشج والمتكافل في أجواء الدينامية الصناعية وتنامي الحس الطبقي. وفي رأيي أن دراسات متكاملة وتفصيلية بهذا الاتجاه، مطلوبة لفهم المراحل التاريخية وفهم تاريخ المدن وتاريخ الأدب ولفهم نشوء الأفكار وتطور الفلسفة في أي بلد أو زمن.
وبعد كل ما قدمناه صارت أمامنا ثلاثية كاشفة لأجواء نمو وتمركز الشعور الطبقي. اتضحت الآن الطبقية فكراً (انجلز) وأدباً (مسزز كاسكل) ومكاناً (مدينة مانشستر) وعالمها الصناعي. وليشهد النصف الأول من القرن التاسع عشر، ظهور كتاب "ظروف الطبقة العاملة في انكلترا سنة 1844 " لانجلز ورواية ماري بارتون و كراندفورد لمسزز كاسكل.