تقوم رواية جيل لوروا (انشودة الاباما) الحائزة على جائزة غونكور على فكرة انتقام زيلدا من زوجها سكوت فيتزجيرالد، الذي دمرها تماماً، انشودة الاباما المروية بلسان زيلدا زوجة الروائي الاميركي، هي رواية سيرة افتراضية عن شخصية حقيقية ووقائع حدثت أو تخيل الكاتب حدوثها مستفيداً من وثائق وشهادات وأحداث، وهي بالتالي انشودة رثاء للنفس، حزينة ومضطربة يرويها الكاتب بصوت المرأة الرقيقة الجميلة ملهمة سكوت فيتزجيرالد وضحيته.
بعد أن استولى سكوت فيتزجيرالد على مسودات قصص زيلدا، أعلنت ذلك للجميع، وكي يتجنب الفضيحة، أخبر سكوت أطباءها المسحورين بشخصيته الآسرة (أن الكتابة تشكل خطراً على عقلها فلندعها ترسم)، ووافقه الأطباء وأقنعوها بأن الرسم سيشفيها من انهياراتها، واصلت زيلدا الرسم ونجحت لوحاتها في استقطاب المعنيين بالفن، ومن مردود أعمالها الفنية بدأت تعيل الاسرة، إذ لم تعد كتب سكوت تباع في اميركا في فترة الكساد مع ظهور أسماء أدبية مهمة: فولكنر وهمنغواي وهنري ميلر، وكانت زيلدا تردد أمام معارفهما (عند زفافنا كانت البداية العجيبة للتخبط والتشوش والمقدمة الطبيعية للعمى) وكانت تدرك انهما استغلا الشهرة استغلالاً سيئاً، إذ عمد سكوت إلى إدامة ظهورهما بشكل مبهر في المجتمعات بأناقتهما الباذخة، فكانت الصحف تنشر صورهما وهما يتموضعان كنجوم السينما أمام الكاميرات، وتعلق زيلدا على هوسهما بالشهرة عند انطلاق مهنته الأدبية (نحن اخترعنا الشهرة والمتاجرة بها وكنا نسير على السجاد الأحمر ويتبعنا الناس مبهورين وقد أقسم سكوت يوم زواجنا انه سيغدو مشهوراً في غضون ست أشهر وسوف يعود الى بلدته مكللاً بالمجد والمال)
شكّل الزوجان ثنائياً نهماً يسعى الى ارتشاف ملذات الحياة الاستهلاكية المظهرية التي طبعت المجتمع بعد الحرب العالمية الأولى، سكنهما هوس اقتناء الملابس الفخمة والمجوهرات الثمينة والظهور في الاعلانات والانتشار كظاهرة نجومية كاسحة يمتزج فيها الوهم بالحقيقة ويتشابك فيها الحلم بالوقائع، وهي الحالة الضبابية التي عاشا فيها طوال حياتهما، ولطالما اصطدما بالسقوط في هوة اليأس حال تبدد الوهم، وقد وثّق سكوت كل هذا التشوش في روايته (غاتسبي العظيم).
تنحدر زيلدا بالتدريج الى هوة الجنون وهي ترى انهيار الحب والحلم وعجزها عن نشر أعمالها؛ فيسجنها سكوت في منزل خال طوال شهور، ويوكل الى الخادمة أمر مراقبتها، وفي حبسها كانت تكتب دونما توقف يوميات وهلوسات وحوارات وكان سكوت يقرأ ماتكتبه فور مغادرتها للتمشي على البحر مع حرّاسها، فيسرق عباراتها المتوهجة، وأحياناً قصصها ونصوصها، تقول زيلدا: كان يستولي على صفحات من نصوصي ويرسلها دون علمي الى صحف نيويورك للتكسب واثبات وجوده بعد أفول شهرته.
تتحدث زيلدا بمرارة عن انهيار عالمها وزواجها واستخفاف سكوت بالقيم الفنية للإبداع عندما شرع يكتب من أجل المال وتوقف عن إكمال روايته الأخيرة ؛ فألقى ناشره وأصدقاؤه اللوم عليها لأنها تسببت في ضمور قدرته على الكتابة ولم تعد تقدم الدعم الكافي له فأجابتهم: كان قد شرع بكتابة روايته منذ عشر سنوات ولم يفلح في انجازها فلا لوم عليّ.
وفي فترة انهيارها، وهما في باريس شاءت زيلدا، وتحت وطأة التشوش العقلي، أن تقلد وقائع روايته (غاتسبي العظيم) كتعويض عن حرمانها وتداعي حياتها، فأقامت علاقة مع طيّار فرنسي وأدمنت على المورفين؛ فأودعها زوجها في مصح عقلي وحصل على أمر قضائي بعدم صلاحيتها لتربية طفلتهما فأنهارت مجدداً، وانتهت حياتها بعد أن طمس فيتزجيرالد إسمها واستغل موهبتها عامداً وحطم روحها وأحلامها.
ملهمات وضحايا -3 .. زيلدا وغاتسبي العظيم
[post-views]
نشر في: 18 مارس, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...