.. وقلتُ لك: ما عدت قادراً على غرس فسائل أخر، فقد هدّني التعب، أمس، كلت يدي، وتورمت قدماي، حتى أنني أمسيت أحبو مثل طفل بين نخلة وأخرى، أتقي السعف وأصفح عن لسعات النحل، آلام رقبتي أشد من البارحة. أنا، اتعجل بخطاي الى القبر، راعك ما سمعته مني، فجئتني، حزامك الجلد يطوّق خصرك، ودشداشتك التي بلون الأرض ساعة وبلون الماء ساعة ثانية، لم تؤخرك الشمس، وما كانت الطريق التراب لينة إلا بخطاك، آلمني أنك، تركت وسادتك خالية من رأسك، وما أخذتك من ليل الصيف إلا ما تطاير من النجوم عليك. يا الله، ما أحوجني اليك، ما أسعدني بك.
ومثل بائع ماء الورد والنعناع، الذي كان يطوف علينا بمصخنته النحاس، على دراجته الهواء، قادماً من حمدان أو من جبل ملا شمس، حملت مسحاتك ومعولك وبرنيّة اللبن، وجئتني، قلت إنك نسيت الهيم، أو ثقل عليك حمله، قضيب الحديد الطويل المشحوذ حدَّ البرق، بنهايته المبراة كأنها النبل، فقلت: لا عليك، ساستعين بهيم أبي العتيق، ذاك الذي غالباً ما نتركه خلف باب بيت الأبقار وقاءً ووقيئةً عن الخنازير والثعالب، ولما انعمت فيه النظر، استحسنته، قلت: هو مما يجلبه الجنود من معسكر الشعيبة، فامّنت عليك، أنْ نعم. ودونما اشارة مني، أدخلت يدك في خِرج، تشدّه على دراجتك، وأخرجت منه حجراً أسود، كنتُ شاهدتُ الاخدود العميق فيه، ورحتَ تسيّره على شفير الهيم، ذات اليمين وذات الشمال، ثم أنني رحت أتلمس حاشيته وهي تبرق وتتلظى، يا لك من حداد، فلاح ماهر، تشحذ هيمك بيدك، فتجعله للشمس إزميلاً، تمرر أصابعك عليه فلا يدميك.
وبين ما اشتجر من سعف وعنب وبطيخ حولنا، في فسحة الوقت التي كانت لنا قبل الظهيرة، سألتني ما إذا كنتُ خبأتُ صندوق الخشب، بمقتنايه الكثيرة هنا، تحت الاجاصة الوارفة، فقلت لك، متعجلاً: لا، أبداً. هكذا، كنت قد نسيت أمره، ولم أعد أتذكره، لم تزد في سؤالك، لكنَّ الصندوق بمقتنياته العشر، قفز في رأسي فجاة، تذكرت اسماعيل وغانم، تذكرت فائزة التركمانية، التي كانت تتعقبنا عارية إلا من شعرها الطويل، في غابة النخل والتوت ذات ليلة، تذكرت الزورق الصفيح، الذي أقلنا من جسر السراجي الى المسناية، حيث ماكنة السقي التي تولّد الكهرباء، تذكرت قمرية العنب التي كانت تمتد من أسفل النهر حتى الطريق الرئيس، تذكرت قناني البيرة التي شربتها مع غانم واسماعيل آخر ليلة، فضحكت، أو لا أظنني بكيت، لا أدري. كان رصاصة قد اخترقت قلب اسماعيل، قبل أن يصل الضفة الثانية من شط العرب، حيث أقتيد من قميصه للحرب، وكان غانم قد أسلم الروح في المستشفى بعد أن عجز الأطباء عن تلبية حاجة رئتيه من الهواء.
وفيما، كنتُ أردُّ التراب على القواعد من النخل التي انتزعنا الفسائل منها، وجدتك تنأى عني، غير مقتبل ولا مدبر القبلة، رأيتك تسبغ وضوءك، فيما كنتُ على ساقية أخرى أسبغ وضوئي، كان ماء الساقية واحداً يجري بيننا، من دلاء الناعور الذي حملناه معاً، ذاك الذي راح يقرقع بيننا، أنت تمسح على قدمك وأنا اغسلها، أنت تركت منجلك على الجادة، تعثر به السلاحف والعصافير، وأنا بخطاي الخضر الى مصلاك، هل صليتَ خلفي، هل صليتُ بإمامتك، أنت أقرأ منّي، وانا أحفظُ منك. أنت أكملت غرس فسيلك وأنا اكملت جمع الشباك والحطب، أنت بسابقتك في الكري والحراثة، وانا بسابقتي في الغرس وإتيان الأبقار اعلافها. يا لنا من صديقين، جارين، حبيبين.
فـي الغرس وإتيان الأبقار أعلافها
[post-views]
نشر في: 18 مارس, 2017: 09:01 م