TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > ياعزيزي دون كيشوت

ياعزيزي دون كيشوت

نشر في: 2 نوفمبر, 2012: 07:09 م

من بين الرفوف المزدحمة بالعناوين والاسماء، نشعر دوماً بأن عدد قليل من الكتب التي تعد الاقرب الى النفس، لماذا؟ لاننا لانزال نجد فيها ملاذا لأرواحنا، وفي كلماتها صدى لما مكبوت ولما يجول في النفس، يكتب اندريه جيد: "هناك كتب تصلح للقراءة في الحدائق العامة، وكتب تقرأ في الطرقات، الا ان ملحمة سيرفانتس "دون كيشوت" يجب ان يقرأها المرء كمن يمشي على لحم الارض، فيما يخبرنا سارتر بان اعظم الكتب تلك التي نقرأها ونحن على حافة الحياة، نلوذ بها بعد ان يعم اليأس، كم من التأويلات يقبل دون كيشوت سيرفانتس، وكم من التأويلات تقبل مدينته "لامانتاشا" ساحة معاركه الخيالية، ان جرثومة البطولة الزائفة حين تناولها سيرفانتس كفت عن كونها مجرد خيالات واوهام، انها تبلع العقل وقد تفتك به، مثلما فتكت بالفارس الهمام دون كيشوت، وحين يعم الوهم يزحف الخراب على المدن والبشر، في القراءات المبكرة تثير دون كيشوت الرواية أسى عميقا على بطلها الذي توهم انه يستطيع ان يقيم مملكة الخيال كي يرضي قانونه الخاص، فيصر ان يترك وراءه القليل من الفعل والكثير من الضجيج، كان هتلر يقول: "اصبت بالغثيان وانا اقرأ دون كيشوت، كيف نستطيع ان نقود الامة بسيف من خشب"، فقائد الامة الالمانية يؤمن بان المدفعية والطائرات وحدها القادرة على بناء البلدان، كان هتلر معجبا بمسرحيات شكسبير ويقال انه كان يحفظ عن ظهر قلب مناجاة هاملت الشهيرة "اكون او لااكون" فيما يذكر كاتب سيرته ان الفورهر ظل يقرأ الفصل الاخير من يوليوس قيصر كل ليلة ليتمعن في خصال بروتس فتراه كل صباح ينظر في وجوه مقربيه خوفا من ان يكون هناك بروتس اخر مندس بينهم.
في بلدان القائد الاوحد تتحرك حياة الشعوب وهوياتها ومستقبلها، بإشارة النصر التي دائما ما تكون طريقا الى الخراب يروي الصحفي البولوني ريفرياد كابوشنسكي في كتاب "مراسل القرن العشرين" أنه عندما ذهب الى المدرسة اول مرة سألته المعلمة، ما هو الحرف الاول في الابجدية، فقال الألف. فضحك جميع رفاقه الصغار. صححت المعلمة: انه حرف السين، الاول في اسم قائدنا ستالين. وفي العراق الجمهوري اصر صدام ان تختم اثار بابل بالحرفين الاولين من اسمه "ص، ح".
في دولة الرجل الواحد والحزب الواحد لايهم ان تصبح مثل دون كيشوت ترمي السهم اينما تشاء، فحيث يصيب السهم هناك الاعداء، الكل اعداء، اشهر سيفك واضرب كما تشاء، لاتصغ لمن يقول لك احذر ان امامك اوهاما وطواحين هواء، الكل اعداء مادام البعض يريد من الجميع ان "ينبطحوا" تحت نعال الظلم والطغيان، قبل ايام استضاف احد مسؤولينا الكبار عدد من الاعلاميين واصحاب الرأي وبدلا من ان يتحدث معهم عن مستقبل البلاد وعن الأزمة الراهنة اخذ يكيل الشتائم للآخرين، فالكل في صف الاعداء ما داموا غير خاضعين لمنطق صاحب القصر، اهجم كي لاتهزم هذا هو منطق دون كيشوت العصر الحديث، لم تعد السياسة في عرف البعض فن الوصول الى المستقبل، وانما خليط عجيب من الاحقاد والانتهازية، كانت الناس تأمل ان تعيش في ظل ساسة يكونون مزيجاً من الطموح والصدق وشجاعة الحلم والسعي لبناء الوطن، فوجدوا انفسهم مع سياسيين غارقين في الطائفية واستجداء السلطة وابتزاز كل من يختلف معهم.
في واحدة من اجمل قصائده يكتب ممدوح عدوان عن دون كيشوت اخر لايرى طواحين الهواء جيوشا عاتية، ولكنه يرى كيف يحول الظلم الانسان الى كائن معدوم:
قم يا سانشو، عاد إليّ الأرق المزمن، والهمُّ الأبديُّ، قم واسمع أفكاراً ما كانت بالحسبانْ
 إن كانوا نجحوا في سحب الفيل لكي يدخل في سمِّ الإبرة كالخيطانْ،فلماذا لا ننجح في شغل الفيل من الخيطانْ؟
إن كانوا نجحوا في تحويل الانسان إلى حيوانْ، فلماذا لاننجح في ارجاع الحيوان إلى انسان؟
الوضع البائس الذي نمر به اليوم هو نتاج ثقافة الاوهام، فكل شيء ينقلب ويتغير ويتبدل وفقا للمصالح الشخصية وليس تبعا للثوابت الوطنية، هكذا سنظل نعيش في دوامة حروب دون كيشوت الخشبية وطواحين الوهم، فقط في هذه البلاد يكون للسياسة معنى اخر وللسلطة معنى مختلف وللمسؤولية معان لاعلاقة لها بالناس.. في هذه البلاد تتكرر رواية بوكاشيو "الديكاميرون" الكل يتفرج من اعلى المدينة معتقدا ان الوباء لن يصل اليه.. لكنه في النهاية يصيب الجميع.. فيما ساسة المدينة لايزالون يثرثرون.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: جائزة الجوائز

العمود الثامن: لماذا خسرت القوى المدنية ؟

العمود الثامن: مع الاعتذار لعشاق الانتخابات !!

العمود الثامن: ماذا حـدث؟

عندما يجفُّ دجلة!

العمود الثامن: ماذا حـدث؟

 علي حسين قالها صديق عاد إلى الوطن بعد غربة طويلة.. سألني: لماذا أصبحت الهوية الطائفية حاضرة بقوة هذه الأيام؟ هل لأنّ هناك خطراً على الشيعة، أم أن السـُّنة يتعرضون لحملة اجتثاث؟ كانت أسئلته...
علي حسين

تحالف القضية الإيزيدية: خطوة أولى نحو تحالف وطني يتجاوز المكوناتية

سعد سلوم هل يمثّل فوز تحالف القضية الإيزيدية ولادة قوة سياسية جديدة للأقليات في العراق؟ وهل نجح الإيزيديون، عبر هذه التجربة، في إعادة تعريف التمثيل السياسي الذي ظل لعقود حبيس الكوتا والتجاذبات الحزبية؟ وهل...
سعد سلّوم

مرشّح التسوية: حين يتحوّل الانسداد السياسي إلى تقليدٍ لإنتاج الحكومات

محمد علي الحيدري باتت التجربة العراقية، عبر دورات انتخابية متعاقبة، تؤكّد معادلة ثابتة تكاد تُختصر بجملة واحدة: رئيس الوزراء الأكثر حظاً ليس صاحب الكتلة الأكبر، ولا زعيم القائمة التي تتصدّر النتائج، بل هو «مرشّح...
محمد علي الحيدري

قسوة الأرقام... والذكاء الاصطناعي

غسان شربل قالَ السياسيُّ العربيُّ إنَّه يشعر بالاستفزاز كلّما قرأ عن الذكاء الاصطناعي والتغييرِ المذهل الذي سيُدخلُه في حياة الدول والأفراد. والاستفزاز ليس وليدَ شعور بالصدمةِ من تغيير هائلٍ يقترب ولن يتمكَّنَ أحدٌ من...
غسان شربل
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram