يقولُ السائقُ العصبيُّ: ها نحناقتربنا من محطتنا الأخيرة، فاستعدواللنزول.../فيصرخون: نريدُ ما بَعْدَ المحطَّةِ،فانطلق! ... محمود دويش – من قصيدة لاشيء يعجبني. وأقول انا لمن يتنقل ما بين المحطات في مدن بلادي، لاشيء يعجبني. محطات مكفهرة، تستقبل ال
يقولُ السائقُ العصبيُّ: ها نحن
اقتربنا من محطتنا الأخيرة، فاستعدوا
للنزول.../
فيصرخون: نريدُ ما بَعْدَ المحطَّةِ،
فانطلق! ... محمود دويش – من قصيدة لاشيء يعجبني. وأقول انا لمن يتنقل ما بين المحطات في مدن بلادي، لاشيء يعجبني. محطات مكفهرة، تستقبل القادم بوجه عابس فتفقده شهية الوصول.
والمحطة في المدينة من المفترض أن تكون الموضع الاول لاستقبال القادم أو المسافر أو مجرد المتنقل من نقطة الى أخرى. أو أنها نهاية المطاف لحركته.
وعند العودة الى واقع التخطيط الحضري للمدينة، فإن المحطة قد تتخذ أشكالاً عدّة تبعاً لنوع النقل ووسائله المستخدمة. وعلى العموم هناك ثلاث أنواع شائعة للنقل هي النقل البري Road or Land Transport والنقل الجوي Air Transport or Aviationوالنقل المائي Ship Transport .
وقد يُعزل عن النقل البري أنواعاً أخرى كالنقل بواسطة السكك الحديد Rail Transportوقطارات الانفاق Underground Transport or Subway.
وطبقاً لهذا، فهناك محطات الباصات Bus Terminals ومحطات القطارات Train Stations وهما بالذات موضوع الحديث هنا. كما أن المطارات هي نوع آخر من المحطات. أما المحطات الاخرى كمحطات المترو والمحطات النهرية فقد أصبحت ضرباً من الخيال في مدن العراق.
ولا تشكل هذه المرافق الحضرية نقاطا ً ضئيلة في المدينة العراقية، ففي بغداد وحدها يمكن عدّ العشرات من هذه المحطات التي تشكل نقاطاً حيوية جداً في الحياة الحضرية للمدينة، كمحطة العلاوي والنهضة والمحطة العالمية للسكك وتجمع ساحة الطيران والكاظمية وأحياء مدينة الثورة، ومواقف الباصات في كل أحياء بغداد، في داخل المدينة وفي نواحيها المحيطة. وكذلك الحال بالنسبة لبقية المحافظات.
يصف Sigurd Grava في كتابه (Urban Transportation System, 2004 ) بأن "محطات النقل في المدينة هي ليست مجرد وسائل لخدمة الناس، وإيصالهم الى مقاصدهم بشكل عملي ومريح، لكنها من الممكن أن تتحول الى عناصر مهمة في الهيكل الحضري للمدينة لتنظيمه ومنحه التوجيه المناسب، وعلى المحطات أن تكون النقاط الاكثر ظهورا ً في شبكة النقل للمدن".
فهل تمتلك المحطات في مدننا هذا الدور في تنظيم المدينة وفي إثراء الحياة الحضرية فيها؟
وماهي العوامل والضوابط والمبادئ التي يفترض إتباعها في تخطيط وتصميم المحطات كي تمتلك هذه الحيوية؟.
يشكل عامل الموقع The Site ضمن نسيج المدينة وسهولة وانسيابية الوصول اليه مبدءاً مهماً في تصميم المحطة لكي يساهم فعلاً في تنظيم وتوزيع حركة المرور داخل المدينة أو منها واليها. قد يكون موقع محطة أو كراج العلاوي مناسباً في بغداد في الأقل للأجزاء الجنوبية منها. إلا أن الطريق اليها يتعرض أحياناً للإغلاق في مناسبات معينة كالاعياد حفاظاً على الأمن في حدائق الزوراء التي تصبح هدفاً لمعظم سكان بغداد. في حين تم توقيع كراج الديوانية في موقع يبعد بمسافات متباينة جداً، عن أجزاء المدينة المختلفة، ويقع الكراج المؤقت والذي قد يطول مكوثه بسبب الفساد المالي الذي أوقف العمل في بناء الأول في موقع ناءٍ خارج المدينة، يتحول في الشتاء الى مستنقع من الوحل يصبح الدخول فيه مجرد إهانة لكلا المسافرين والعاملين.
ثم يأتي عامل الخدمات المتوفرة Facilities في المحطة لكل من المسافرين والعاملين من سائقي الحافلات وغيرها الى الموظفين، وأصحاب المحال والمطاعم و ما شابه في الأهمية الثانية، ليجعل المحطة نقطة حيوية في المدينة. وهنا يمكن القول وبدون أي تردد، أن المحطات في مدن العراق هي الأسوأ، والأقل خدمات والاضعف هيكلية. ولو قورنت محطات مدننا بأكثر دول العالم فقراً وتخلفاً لما كانت أفضل منها. ولا أدري متى ستنتبه بلديات هذه المدن الى هذه النقاط الحضرية المهمة لتعيرها بعض اهتمامها!
دائماً ما تفتقد هذه المحطات الى صالات الانتظار والى مظلات الوقوف، ولا وجود للمرافق الصحية والحمامات الا نادراً، ولا وجود يذكر لأيّ إمكانات تقنية حديثة كشاشات التوقيت – وبالطبع لم يعد هناك أي وجود لاوقات معينة للانطلاق وللوصول - ، إما مطاعم ومقاهي هذه المحطات فهزيلة فوضوية قذرة لاتلتزم بايّ من شروط الصحة، كما أنه لاوجود لإدارة واضحة لهذه المحطة سوى بعض الافراد المسؤولين عن جباية الرسوم المفروضة على وسائل النقل وغض النظر عن كل المخالفات الأخرى.
عادة مايتم ربط مواقع هذه المحطات وخصوصاً المحلية منها، بالأسواق المهمة والمراكز التجارية للمدينة، وهو أمر طبيعي وبديهي للمخطط الحضري، فالمحطة تمثل عادة مبدأ أو منتهى حركة الاشخاص، كما أنها تمثل عُـقداً مكثفة للحركة في المدينة تدخلها وتخرج منها أعداداً هائلة من الناس تكفي لتنشيط الحركة التجارية للأسواق المحتمل انشاؤها بالقرب منها. غير أن محطاتنا غالباً ما تهمل هذه المسألة المهمة، وبدلاً من إنشاء مراكز تجارية منظمة تنتشر الأسواق الشعبية المؤقتة والمحال المتنقلة والباعة المتجولون، بكل ماتحمل هذه التكوينات من سلبيات لاحصر لها.
ويشكل عامل المرونة والقابلية على التوسع أمراً مهماً جداً، في اختيار موقع المحطة وفي تخطيطها وفي تصميمها وبدون ذلك، فإن وقوع مشكلة ضيق المكان تصبح واقعاً بعد سنوات قليلة، وهذا ما يحدث مع معظم المحطات. الكثير من الباصات الداخلية تقف خارج محطة الطيران، لعدم مرونة المكان بالرغم من وجود مساحة أخرى الى شماله. تقف هذه الباصات في وضع فوضوي جداً ومزعج للراكب بشكل لايطاق.
وإذا أردنا الالتفات الى البيئة الحضرية للمحطات، نجد أن محطات الدول الأخرى، بمثابة نقاط جاذبة لسكانها ومواقع اتصال اجتماعي تتحول أحياناً، الى أماكن مفضلة للكثيرين لارتيادها والمكوث فيها لتمتعها بالعديد من الخدمات الترفيهية كالمطاعم والمقاهي والمكتبات وصالات العرض ومحال الأزياء، وربما ترتبط بعض المحطات بفنادق راقية كما هو الحال في محطة Nils Ericson Terminal في غوتنبرغ السويدية وفندق First Hotel G 4 stars المقام فوق المحطة مباشرة.
فما هي البيئة الحضرية التي نجدها في جل محطاتنا في العراق بدءاً من أهمها الى أدناها أهمية وحجماً، غير بيئة فقيرة هزيلة فاقدة لكل مقومات التحضر. بيئة خشنة طاردة لأغلب فئات المجتمع تسيطر عليها ثقافة السائق الاميّ الذي يقف لينادي بأعلى صوته، في زمن أصبح فيه حتّى الأطفال قادرين على القراءة واستعمال الحاسبات والهواتف النقالة. بيئة غير مناسبة تماما ً للمرأة التي تجد نفسها مهددة بالتحرش فيها وغير مناسبة للطفل لقساوتها وفقدانها لابسط الخدمات.
هناك الكثير من العوامل والمباديء التصميمة الواجب توفرها في المحطات كي يصدق عليها كونها كذلك، ولكن ختام الحديث هنا هو أن المحطات عادة ما تتحول الى معالم معمارية مميزة لمدنها كما هو الحال في المحطة العالمية للسكك في بغداد، والتي أنشأها الانكليز 1948-1953 من تصميم جي. أم. ولسون بمبناها الرائع. وبالمقارنة بمدن لدول أخرى نرى محطة باصات أصفهان الايرانية (ترمينال كاوه) بمبناها الجميل تقف لتكون معلما ً حضريا ً وحضاريا ً مهما ضمن نسيج المدينة، وكذا الحال مع محطات السفر في مدينة أسطنبول وغيرها. في حين نجد أن المحطات الأخرى، في مدن العراق ما هي الا سقائف مبتذلة صدئة قبيحة كما هو الحال في محطة او كراج العلاوي، تلك السقائف التي تقبع ربما لأكثر من 40 عاماً، دون أن تفكر الجهات المسؤولة في تغييرها بالرغم من ضخامة الواردات التي تجلبها مثل هذه المرافق الخدمية. وكذا الحال في أغلب المحافظات كالمحطتين الشمالية والجنوبية في محافظة النجف وكراج الأحياء فيها. وكذلك محطة أو كراج الناصرية الذي يمتد كخان قديم هرم قد عفا عليه الزمن، أو بالأحرى كصف من القبور المهجورة ليس الا.