ليس للحياة سوى أبناء الحياة، هذه الخلائق التي تنجز ديمومة الوجود وتعمّر الأرض وتؤسّس المستقبل وتحلم بما وراء الغد، وليس لأعداء الحياة سوى خداع بنيها بتهويل القصاص والعقاب ونفيهم من حضن الحياة.
من يملك الإيمان بخياراته ومنجزه، يمضي قدماً، فلا يحتاج للبرهنة على خطأ دروب الآخرين وخياراتهم، لغيرنا حق اختيار أساليبه في العيش والعمل، شرط أن لايمسّ حريتنا في الفكر والعيش، فليس من مسؤولية الإنسان في المجتمعات الحديثة الحكم على أفكار الآخرين، وأساليب عيشهم، مثلما ليس من حقه إصدار حكم الموت على من يخالفونه الرأي أو الرؤية والاجتهاد في أمور الدنيا وشؤون العيش ونمط الحياة.
لاوجود لحقيقة مطلقة في عالمنا، كما يدّعي الباطشون بقوة المال والسلاح، الحقائق نسبية ولها ألف وجه وتختلف من زمن لزمن، ومن العسف فرض أحكامنا اعتماداً على حقيقة مطلقة منسوبة لعقيدة ما يظن البعض، أنها تنطوي على كل الأجوبة في الحياة البشرية.
كل من يملك عقلاً لا يتبع مايؤمر به قسراً، بل يتبع دربه الخاص؛ فكل من يملك العقل يجد لنفسه متسعاً من التفكر ومتسعاً من الرؤية التي تميّز فكرته الشخصية عن الحياة ويمكنه حينها قبول امتلاك الآخر لفكرة مغايرة قد تتقاطع مع فكرته وتغنيها لكنها لا تلغيها.
إهمال العقل والانجرار وراء القطيع، جحود بأعظم ميزة، ترقى بالإنسان عن الكائنات الأخرى والجمادات الغفل وتجعله مدركاً لمكانته ودوره في بناء الأرض وإعمار العالم، ومن يعطّل العقل ويخشى مسؤولية الفعل واتخاذ القرار ويسلّم أمر قيادته للآخرين، فإنه يهدر الهبة ويعود طائعاً الى ظلمات الكهف متخلياً عن انجازات البشرية التي اجترحتها طوال العصور من أجل الحرية والتحضّر.
من مزايا الإنسان الحر المتعقل المالك لزمام العقل المتفكر والإنسان الذي يملك القدرة على التحضّر وقد بلغ مرتبة متقدمة في التأنسن، أنه يتخذ الحوار العقلاني وسيلةً ونهجاً للتواصل وتبادل وجهات النظر المختلفة، ومن ثم القبول بالاختلاف والإقرار بحق المقابل في اعتناق منهجه ورؤيته، ولايحصل هذا القبول إلا عند الذين بلغوا مراحل انسانية نأت بهم عن سلوكيات الدفاع والهجوم التي ميّزت انسان الكهوف، مع علمنا أن انسان الكهف، الصيّاد البارع، لم يكن ليفتك بشبيهه أو أفراد جماعته البشرية، بل يحتفظ بقوته وجهود جماعته، من أجل القنص وتأمين الغذاء ومواجهة الضواري وتبدلات الطبيعة؛ فهو يقرّ عملياً ويعترف بأهمية التعاضد في مواجهة الأخطار البدائية على حياته وحياة جماعته.
من مزايا الإنسان المعاصر الذي تجاوز زمن الكهف وحضارة الصيد، أنه يحتكم الى الوعي والمعرفة ويقرّ بالمتغيرات ويعترف - إن لم تتحكم به عصبيات القبيلة والدين والطائفة والحزب - بأن لكل عصر مايناسبه من السلوكيات الاجتماعية، فلا يفرض رؤية انسان الكهف أو تقاليد حضارة الصيد على انسان القرن الحادي والعشرين الذي يتعامل مع آخر مبتكرات التقنية والالكترونيات، ويقرّ أن لكل عصر من السلوكيات والأفكار، مايتوافق مع نزعة التطور والتغيير المستمر في اساليب العيش..
هل يدرك بعضنا، أن الانسانية لم تجتز كل تلك العصور المتعاقبة عبثاً، وإنها ناضلت من أجل حرية مكفولة وحقوق إنسانية معترف بها، وحياة ميسرة نأت بالبشر عن فظاعات العصور المظلمة التي عطّلت العقل وحرمت التفكير، وفرضت عقيدتها بأنواع التعذيب المروّعة والحرق والشنق، ليهيمن كهنة المعبد على الزمن والأرواح والأموال، ويقصوا كل مفكر ومعارض بتهمة الهرطقة والسحر والتعاون مع الشيطان. هل ستعود الإنسانية الى تلك الظلمات ثانية؟.
إنسان العصر وسلطة العقل
[post-views]
نشر في: 25 مارس, 2017: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
ناظر لطيف
مقال جميل شكرا لك