لو نظرنا إلى مجازر أطفال المدارس، والتفجيرات الإرهابية، وجرائم القتل هنا وهناك، لبدا لنا العنف البشري سائداً في كل مكان بظلال مرعبة كثيرة، لكننا لا نحتاج إلا للنظر إلى واحد من أقرب أبناء عمومتنا من الحيوانات الرئيسة لنفهم أننا لسنا وحدنا
لو نظرنا إلى مجازر أطفال المدارس، والتفجيرات الإرهابية، وجرائم القتل هنا وهناك، لبدا لنا العنف البشري سائداً في كل مكان بظلال مرعبة كثيرة، لكننا لا نحتاج إلا للنظر إلى واحد من أقرب أبناء عمومتنا من الحيوانات الرئيسة لنفهم أننا لسنا وحدنا في نزوعنا للقيام بمجزرة. فكما يفعل البشر، يمارس الشمبانزي أيضاً الاغتصاب، والقتل، بل وإشعال الحروب البدائية، كما يقول البروفيسور في علم الإنسان.ترافيس رين بيكرينغ كاتب هذا المقال المنشور في The Scientist، ومؤلف كتاب (Rough and Tumble).
وفي السنوات العشرين الماضية، راح علماء الحيوانات الراقية، المتأثرون تماماً بالقرابة الجينية والاستمراريات السلوكية بيننا "نحن وهم"، يستخرجون الفكرة القديمة ( وإن صيغت اليوم بتعابير مزخرفة ) حول بروزنا من أسلافٍ من القرود القاتلة. لكن حتى وإن لم يكن هناك سؤال عن القيمة الاكتشافية للنماذج الحيوانية الرئيسة، إذا استُخدمت لاستبعاد المعطيات الأخرى، فإنها يمكن أن لا تتمخض عن سيناريوهات كافية بخصوص النشوء البشري. وهذا لأن أجدادنا البشريين القدماء قد خلّفوا وراءهم سجلاً آثارياً وافراً لنشاطاتهم ــ سجلاً لا يمكن تجاهله، ولا يتطابق، من نواحٍ كثيرة، مع سلوك الحيوانات الرئيسة غير البشرية الموجودة.
ويتولى كتابي ( Rough and Tumble)، تقييم الدور الحيوي لعلم سلوك الحيوانات الرئيسة من أجل توضيح ماضينا. لكنه يقر أيضاً بالمساهمة الواسعة التي يستطيع علم الآثار أن يقوم بها لفهم المدى الذي يمكن أن تكون نزعات أسلافنا العنيفة قد دفعت التطور البشري إليه.
فآراء مختلف الاختصاصيين تتوجه، مع اختلافات قليلة، نحو الفرضية نفسها: أن الصيد كان عاملاً أولياً في نجاح أسلافنا التطوري. فقد سهّل الصيد الهجرات البشرية الأولى إلى خارج أفريقيا وإلى داخل أراضٍ أقل عطاءً، حيث كانت أغذية الخضراوات الحولية غير متيسرة. كما أن الصيد يؤسس على وجه الاحتمال ديناميكياتنا الاجتماعية الفريدة، بما في ذلك التقسيم الجنسي للعمل، مع رجال صيد ونساء تجميع يعيشون في جماعات متمددة تتقاسم الغذاء. وكان الدور المركزي للّحم في النظام الغذائي البشري يعني اعتماد أجدادنا على جثث حيوانات كبيرة لدرجةٍ تكفي لإسنادهم وتسهيل التوزيع المعقد للبروتين إلى كل أفراد الجماعة. والسجل الآثاري المبكر جداً ، المكون من أدوات القطع الحجرية والعظام المجزورة العائدة لذوات الحوافر من الحيوانات، يدعم قضية أن أناس ما قبل التاريخ كانوا يقومون بصيد كبير على أساس منتظم.
إن اعتماداً وحيداً على مراقبات الحيوانات الرئيسة غير البشرية لن يكشف أبداً عن العناصر المهمة لتاريخنا التطوري. فذكور الشمبانزي تقتل حيوانات أصغر من تلك التي توجد عظامها في السجل الآثاري، ولا يتشاطر الشمبانزي اللحم إلا في تمنّع، من أجل تعزيز تحالفات سياسية أو مقايضةً باتصالات جنسية من الأناث. والاختلاف الآخر بين الشمبانزي والبشر هو أن الشمبانزي يتمتعون بقوة ونشاط فائق، مستخدمين بشكل رئيس أجسامهم وأسنانهم لمطاردة، ومسك، وقتل الفريسة بخفة واهتياج. وفي المقابل، فإن أسلافنا البشر الأوائل ــ بأجسامهم الصغيرة، وأسنانهم غير الحادة، وأقدامهم البطيئة ــ كانوا أقل قدرةً من الحيوانات الكبيرة السريعة التي كانوا يقتلونها ويأكلونها، كما يستنتج
الآثاريون.
وكان البشر، باعتبارهم مفترسين ضعفاء، يحتاجون إلى أسلحة لسد الفجوة بينهم وبين فريستهم الضخمة. ويقدم كتابي هذا معطياتٍ تدل على أن البشر يمكن أن يكونوا قد اصطادوا بالرماح طوال 2 مليون سنة. وأنا أرى أن الصيد الناجح بالرماح قام على تحكم عاطفي، كما أني أعيد النظر في خطوط متنوعة من الدليل على ذلك ــ سايكولوجية، وعظامية، وسلوكية ــ توضح، عند توحيدها، ان البشر كان لديهم هذا النوع من التحكم العاطفي. ويشير هذا كله إلى أن التصور القديم، المؤثر مع ذلك، ومفاده أن أسلافنا كانوا قروداً قاتلة، تتصرف بعدوانية غير مميزة في كلٍ من الصيد والنزاع ما بين الأشخاص، هو إشاعة كاذبة.
وأنا لا أعتقد بأن النهج السلمي هو الوضع الأخلاقي الافتراضي في كل ظرف ذي علاقة بذلك، ( فأي شخص " طيب " من عام 1932 كان سيمانع في قطع حنجرة هتلر، إن توفرت له الفرصة لذلك؟ ). لكن المجتمع الإنساني الحديث لديه بالتحديد مشكلة مع العدوان على مستويات كثيرة، من النزاع الشخصي المتبادل البسيط إلى الحرب المشتعلة. والنقطة هنا أن تقييم ومواجهة هذا التحدي، رغم أساسيته لتحسين نوعية الوجود البشري، لا يفعل شيئاً لتوضيح أصول ذلك الوجود. فتلك المهمة هي في العمل الصعب للجمع ما بين كل الإشارات التي تزودنا بها الطبيعة، بما في ذلك ليس سلوك أقربائنا من الحيوانات الرئيسة الحية فقط، بل والسجل المادي لماضينا الفريد أيضاً.
الجذور الجينية للعنف
وجاء في مقال نشرته مجلة nature أن محاولة حديثة لتتبع الجذور النشوئية للعنف لدى البشر أدت إلى تزويد العالم أيضاً بشيءٍ ما خاصٍ حقاً، أي معدلات " القتل " المقدرة لأكثر من ألف نوع من الثدييات. فالبشر، بمعدل عنف نوعي مقدر بـ 1,3 بالمئة، لا يقارنون بحيوانات السرقاط، والليمور، وحتى السناجب. والسبب في حصولنا على كل هذه المعطيات التي لا تُصدق هو قيام خوزيه ماريا غوميز، المختص بالبيئة في جامعة غرناطة في أسبانيا، بتبيان الكيفية التي تطور بها العنف من السلف المشترك لكل الثدييات إلى البشر اليوم. وقد أنجز غوميز وزملاؤه الباحثون ما يُعرف بالمقارنة الجينية النوعية phylogenetic، وهي دعامة أساسية للعلم النشوئي رجوعاً إلى تشارلس دارون. وهذه المقارنات، أساساً، تعمل على قاعدة أن سمات الأنواع ذات الصلة الحميمة يمكنها أن تعرّفنا بطبيعة نفس تلك السمات التي لدى سلفها النشوئي المشترك. وتكرار ذلك لدى مجموعات متعددة من الأنواع كهذه سيبوح بسمات أسلاف مشتركين متعددين، لهم أسلاف مشتركون، وتبقى العملية هكذا ماضيةً للوراء بعيداً قدرَ ما تسمح به المعطيات المتيسرة.
لقد قدَّر غوميز وزملاؤه معدل عنف البشر الحاليين ــ بما في ذلك لا القتل فقط، بل وكذلك الوفيات بسبب الحرب، والإعدام، وقتل الأطفال ــ بـنسبة 1,3 بالمئة، وهي أدنى قليلاً من الاثنين بالمئة حين ظهر الإنسان لأول مرة كنوع بايلوجي. ومع أننا كنا مندفعين بثبات هبوطاً على مدى المئتي ألف سنة الأخيرتين ــ فقد بلغ معدل العنف ما يُقدَّر بـ 12 بالمئة في أوروبا، وآسيا، وأفريقيا بين 700 و1500. غير أن الباحثين يقدرون أننا قد بقينا على الأغلب بين اثنين وأربعة بالمئة على امتداد تاريخنا، أي ما يُبقينا تحت الـ 4,5 بالمئة من معدل عنف أقرب أقربائنا النشوئيين، الشمبانزي.
وكلانا نبدو، نحن والشمبانزي، سيئين مقارنةً بأبناء عمومتنا، شمبانزي البونوبو bonobos، المولعين على نحوٍ سيّء باللهو والمهووسين بالجنس، الذين يصل معدل عنفهم إلى 0,7 بالمئة فقط. لكن البونوبو يبرزون كاستثناء بين الحيوانات الرئيسة، التي تنطوي عموماً على واحدة من أعنف الذُرّيات lineages التطورية جميعاً، مع معظم أسلافنا الرئيسين الذين يمكن أن يكونوا أعنف من نسبة الـ 0,3 بالمئة المقدرة للسلف المشترك لكل الثدييات.
ونحن نعرف ذلك لأنه كان على الباحثين، إذا ما أرادوا أن يطّلعوا على الجذور الجينية التطورية للعنف البشري، أن يستخرجوا معدلات " قتل " تقريبية لأكثر ما يمكن من الثدييات. فقد جمعوا معطيات من أكثر من ألف دراسة للحصول على تقديرات لعدد الوفيات التي حدثت للثدييات على أيدي أفراد من النوع نفسه، وهو ما يعني أن لدينا الآن تصنيفاً شاملاً يُبين لنا أي نوع من الثدييات هو الأكثر إجراماً.