يقول صاحب كتاب (ذاكرة السفن الشراعية) ديونسيوس البرتوس آجيوس والمترجم من عبد الإله الملاح، والذي أرسله لي صديقي كاتب القصة والروائي السعودي حسن دعبل:" إنه من الصعوبة بمكان الحصول على معلومات تقنية في المصادر العربية المبكرة، في الفترة القروسطية، بينما تحمل الادبيات الغربية، البرتغالية، الهولندية، الانكليزية، معلومات دقيقة عن صناعة السفن الشراعية." وإمعاناً في حديث السفن وشجون البحر، اجدني بحاجة الى الكتابة في ما يجاور هذه، وأرى أنَّ قضية مثل كتابة اليوميات ستدخل ضمناً هنا.
ولكي أدخل في متاهة كهذه سأذهب الى (المفتية) في ضاحية الجبيلة، على شط العرب، حيث تأسست أول مصفاة للنفط في البصرة، سنة 1953 والتي تعمل شركة نفط الجنوب الآن على هيكلتها، أو تحويلها الى مشروع استثماري، يحدوني أمل بوجود من يتمكن الكتابة فيه، ذلك لأن الجرافات آخذة طريقها الى مسح مخلفات المصفاة، وبسط الأرض وإخفاء المعالم، وبذلك سنكون إزاء ضياع صرح صناعي، ضياع معلم، لا يقل أهمية عن عشرات المعالم، التي ضاعت وتضيع في البصرة والعراق. المصفاة التي دخلت الحياة البصرية كواحدة من مفاصلها الاستثنائية.
أطلعني احد الأصدقاء المهندسين، العاملين هناك، على صور خزانات وتاورات وأبراج ومرساة وسفينة غارقة وأنقاض مكائن، وقضبان حديدية ومقاطع صفيح.. الخ، لكنني ذهبتُ بعيني الثالثة الى صورة المصفاة في العام ذاك، الى الملك الذي وقف يأذن بالعمل، بعد أن قطع شريط الافتتاح، الى أول شحنة من النفط، سوّقت منه الى موانئ العالم، الى عدد المهندسين والعمال الذين صفقوا للسفينة وهي تتهادى مبحرة من رصيفه، الى الراية الملكية التي رفعت الى جانب العلم البريطاني، وهكذا رحت أسرّحُ البصر في الزمن والمكان، اللذين لم يعودا، رافعا يدي محيياً الفراغ الذي سأشهده ويشهده معي مئات الآلاف من أبناء المدينة.
عملت متوالية الهدم في العراق على محو صفحات مهمة من تاريخ البلاد، وعملت السياسة الخاطئة - على تعاقب الحكومات- على العبث بمقدرات شعب بأكمله. كان المتحف الكويتي يحتفظ بإحدى السفن الشراعية القديمة، التي كان البحارة الكويتيون يبحرون بها في رحلات الصيد والبحث عن اللؤلؤ، لكن المتحف تعرض للنهب والسلب والحرق، بعد غزو نظام صدام حسين للكويت، فأحرقت السفينة مع ما أحرق من مقتنيات.
وفي قرية اليهودي بأبي الخصيب يحتفظ السيد مرتضى في بستانه مع ما يحتفظ من لقى وتحف ونوادر بأقدم حافة (باص خشب) في متحف مقتنياته الشخصية. أمس، أعلمني احد الأصدقاء بأن مرتضى، اضطر لبيع البستان، ويعتقد بأن المتحف بات عرضة للفقد هو الآخر. الحافلة، ذاكرة خصيبية بامتياز، سأذهب الى النجار نجم هوز، الى دكانه في محلة بريهة قرب سينما النصر، ليس بعيداً عن بار الساحل.
ما الذي يجري في البلاد؟ لا أحد يدوّن ولا أحد يحتفظ، والمدينة تضيعُ، البلاد كلها تضيع، والحكومة عامدة على ذلك، ذاهبة في غيّها بكل تأكيد، هذه بلاد ليس لها أحد. أسأل عن صناع المشاحيف في منطقة الهوير، بقضاء القرنة، هؤلاء، ورثة كلكامش العظيم، والذين استعان بهم الرحالة الايطالي هيردال، في الفترة بين العامين 1970-1971 حين بنى سفينته من البردي والقير، وأبحر بها من دجلة، فشط العرب حتى الخليج، وحيث احرقها قبالة سواحل الصومال، محتجاً على الحرب والمجاعة والموت. هل أسأل عن مصنعي السفن الخشبية في قريتي نهر خوز وابي مغيرة بأبي الخصيب، أنا الذي كنت اتوقف مصغياً للمطارق، وهي تتصادى بين النخل، هل أتذكر سفن علي بن محمد، صاحب الزنج، وهي تقارع جيش الخليفة الموفق بالله العباسي وابنه محمد؟.
ما الذي يحدث فـي البلاد ؟؟؟
[post-views]
نشر في: 1 إبريل, 2017: 09:01 م
جميع التعليقات 1
إنعام كجه جي
بالكلمات فحسب، بقليل من الكلمات، سحبنا طالب عبدالعزيز من منافينا ومهاجرنا وابتدع لنا رحلة تاريخية نادرة في شط العرب. لماذا يبقى كل هذا الماضي الجميل مطموراً؟ في انتظار كتاب توثيق وذكريات أيها العزيز.