عبر الطريق التي كانت حرباً الى البصرة، قبل قرابة اربعين عاماً، وقبل وصولنا بيوت شركة النفط الايرانية، التي بناها الانكليز، في المحمرة، أيام شركة الـ BPC وحتى توقفنا القصير، على الجسر الذي يصل المحمرة بعبادان، كانت الحدائق قد زرعت تواً، عرفنا ذلك من قطع السباخ، التي لم يصلها العشب بعد، لكن الورد فيها كان صادقا أكثر، فقد تفتح مستبشراً، مستجيبا لنداء الربيع الذي يوشك. لم يكن المطعم الباكستاني ليغلق ابوابه، لولا وصولنا متاخرين، ولكي نسدَّ الجوع الذي راح يفتك، استعنا بمطعم صغير يبيع اللحم والدجاج، قطعاً معلقة على السيخ الكبير، الذي تدور النار حوله، يسمي صاحبه ذلك كبابا تركيا، وما هو بكباب ولا تركي. كانت عبادان نائمة، وساعات الدكاكين تشير الى قيلولة ما بعد التعب والضجر.
عرب الأهواز متعطشون لرؤية وسماع كل ذي لسان عربي مبين، فقد فقدوا الكثير من صلاتهم اللغوية، الأرض عربية بما عليها من السمرة والناس، عربية بما في بطون انهارها من القصب والسمك والضياع، ولكي يمعنوا بنا وصلاً وقرابة صعدوا بالمودة والترحيب الى ما لا يمكن تحمله، فأخذونا بالأعين والقلوب والاكف، حتى ما عدنا نتذكر هل اننا في البصرة ام في الفلاحية، بين نخلنا او بين نخلهم، على انهارنا او على انهارهم؟ ولأن الوقت آخذ في الشمس، فقد اشفقوا علينا، يطلعوننا الهور الذي يرين على الفلاحية من جهاتها الأربع، يسمونها الدورق (الدورك) من قبل لكن الحكومة تسميها "شاديكان" التي تعني موضع الفرح. وفي رحلة الهور ما شعرت بغربة القصب والاحراش، أبداً فهو ذاته التي يدخله البط والاوز وتقصده اللقالق عندنا، كل شتاء.
لم تكن الفلاحية على القرب الذي كنت اتصوره عن عبادان والمحمرة والاهواز، هي أبعد من ذلك، لذا، ستسير المركبة ساعة أو اكثر بمن يريدها، وهنا أجدني مطوقا بالشكر لأصدقاء الذين قدِموا من هناك، احمد حيدري، حسين طرفي، د. جمال نصاري، اما من أقمت في بيته، هادي سالمي، ومن منحي من وقته وقلبه اسماعيل عسكر وبقية الاصدقاء، ممن حضروا الامسية وقد تاخر الوقت بهم فقد كانوا الأهل حقاً.
سألتُ المؤرخ الشيخ عبدالامير الشيوكي، الذي حفظ بمعجم كبير اللهجة الاهوازية عن الألف واللام غير ملصقة باللقب فقال بانها ممنوعة عليهم، لذا فهم يقولون أحمد حيدري ويقصدون الحيدري وكذلك الامر مع النصاري والسالمي ووو . أدركت عن قرب حاجة قلوبهم لكمال أسمائهم مقرونة بالقاب قبائلهم وعوائلهم، ادركت أنَّ يافطات المحال التجارية والاطباء والمدارس لا تُخط بالعربية، وهكذا رحت أدنو من هواجسهم، قلت مهوّناً الامر على بعضهم، نحن في العراق، لدينا أصوات في البرلمان تنادي برفع الالقاب عن اسماء المسؤولين، ذلك لأن مشكلة تسبب بها اللصوص من اعضاء الحكومة، ومن بعض رجال الدين، فصار اللقب عبئاً على البعض.
في المنطقة العربية بإيران هناك حاجة ماسة لتأكيد العربية عند السكان، هم يشعرون بغربة واضحة، كأنهم مواطنون من درجة اخرى، واضح أن الحاضنة الاسلامية –الشيعية لم تكن كافية لهم. لكنني، همست في أذن الناس هناك، قائلاً: ما تشكو منه انت هنا، اشكو من صداه هناك، وإذا كانت الدولة الاسلامية-الشيعية غير كافية لتحقيق رغبتك وطموحك في الحياة، فستكون الدولة القومية الأعجز عن تحقيق الرغائب والطموحات تلك، في الإنسانية يكمن كمال الخلق والحياة.
بين الشعر والناس في الفلاحية "شاديكان"
[post-views]
نشر في: 15 إبريل, 2017: 09:01 م