(1-4)
في ألف ليلة لا تنجح شهرزاد بإنقاذ نفسها ومعها بنات جيلها من الموت المحقق على يـــد الملك الطاغية شهريار، أحد ملوك ساسان "بجزائر الهند والصين وصاحب جند وأعوان"، كما تخبرنا عنه ألف ليلة وليلة في سطورها الأولى، عن طريق اختراعها روايتها القصص وإختراعها الحكايات، بل كانت الشخصية الأدبية الأولى التي إخترعت بغداد. صحيح أن الليلة الأولى من ليالي "ألف ليلة وليلة" تبدأ برواية شهرزاد "حكاية التاجر والعفريت" والتي تتحدث عن تاجر اشتد عليه الحر فجلس في العراء، وأكل تمرة ما أن رمى نواتها، حتى تحولت إلى عفريت طويل القامة وبيده سيف هدد به التاجر، إلى آخر الحكاية، لكن تلك هي مجرد تمهيدات أولية للمجيء على بغداد. في القصة هذه وفي قصص أخرى لكن قليلة. ليس هناك كتاب نثري في الحقيقة، يحكي عن أحوال بغداد في تلك الفترة، كما حكت عنها شهرزاد، رغم كل ما حوت عليه حكايتها من اختراع.
رغم ارتباط قصة ألف ليلة وليلة ككتاب، أو كمجموعة حكايات بمدينة بغداد، إلا أن اسمها لا يبرز فيها منذ البداية. ثم لا الملك شهريار ولا الفتاة التي ستغامر بالزواج منه، ملكة الحكايات، شهرزاد هما من سكان بغداد. الحكاية الأولى "حكاية الملك شهريار واخيه الملك شاه زمان"، التي هي بمثابة مدخل تمهيدي للكتاب تبدأ بالشكل التالي: "حكى والله أعلم وأحكم وأعز وأكرم إنه كان في ما مضى وتقدم من قديم الزمان وسالف العصر والأوان ملك من ملوك ساسان بجزائر الهند والصين صاحب جند وأعوان وخدم وحشم. وكان له ولدان.... وكان الأكبر أفرس من الصغير وقد ملك البلاد وحكم بالعدل بين العباد...وكان أخوه الصغير اسمه الملك شاه زمان وكان ملك سمرقند". لا ذكر لبغداد لا في المدخل التمهيدي هذا ولا في الليلة الأولى، عندما تبدأ شهرزاد برواية حكاياتها.
أولاً في الليلة التاسعة يبرز اسم بغداد، في "حكاية الحمال مع البنات". صحيح أن بغداد ستظهر من حين إلى آخر في حكايات أخرى، بعضها يحمل اسم بغداد كما هي الحال مع حكاية "مزين بغداد" في الليلة الثامنة والخمسين، لكن تظل صورتها في الليلة التاسعة، هي أقوى من كل صورها القادمة، إذا لا تكون الأساس، الذي ستعتمد عليه الحكايات الأخرى. كأن شهرزاد تعمدت في تقديمها ذلك، بناء الإطار العام لمدينة بغداد التي ستكون مسرحاً لحكايات قديمة.، بل كأنها أرادت أن تؤسس إطاراً واقعياً لمدينتها المخترعة. سواء في ما خص المكان الذي دارت فيها الرواية، أو سواء في ما خص الشخصيات التي ستكون المحرك الأساسي للقصة، فمن الجهة، الشعب، سكان بغداد بتنوعهم الطبقي والأثني، ومن الناحية رفعه أمام الحمال أو عند تجوالها في السوق، ليبين "من تحته عيون سود باهداب واجفان وهي ناعمة الأخرى، الخليفة هارون الرشيد ووزيره جعفر البرمكي، دون كيخوتة وسانشو باشا بالأحرى.
في الليلة التاسعة تبرز بغداد للمرة الأولى. لكن أيضاً ليست هناك قصة أخرى في ألف ليلة وليلة تضاهيها في رسم صورة لبغداد تريد فرض واقعيتها علينا بالقوة. في الحكاية هذه التي تبدأ بوصف الحمال، بأنه "إنسان من مدينة بغداد"، نتعرف على صورة نموذجية لبغداد، مدينة يتوفر فيها كل شيء لمن يملك قوة شرائية، النساء يتجولن في أسواقها وحاراتها، بل يسكن بلا أزواج ويقمن الحفلات في بيتوتهن. فالحمال الفقير الذي كان متكئاً على قفصه في السوق ينتظر زبونه، لم يجد غرابة في الأمر عندما وقفت فجأة إمرأة أمامه، مثلما لا يبدو الأمر غريباً أن تتجول إمرأة بهذا الجمال وحدها في السوق.
يتبع
اختراعات شهرزاد
[post-views]
نشر في: 18 إبريل, 2017: 09:01 م