لا تزال واقعة اغتيال الرئيس الخامس والثلاثين للولايات المتحدة الأمريكية جون كندي (1917-1963)، تُثير شهية وفضول العديد من الكتاب وصنّاع السينما عبر العالم، حيث تطرقت كلها لتفاصيل حياة الرئيس المغتال، من وجهات نظر مختلفة ومتعددة.
لكن هذه المرة ت
لا تزال واقعة اغتيال الرئيس الخامس والثلاثين للولايات المتحدة الأمريكية جون كندي (1917-1963)، تُثير شهية وفضول العديد من الكتاب وصنّاع السينما عبر العالم، حيث تطرقت كلها لتفاصيل حياة الرئيس المغتال، من وجهات نظر مختلفة ومتعددة.
لكن هذه المرة تم تقديمها بشكل مغاير تماماً، من وجهة نظر زوجته جاكلين لي (1929-1994)، التي كانت السيدة الأولى عند وفاته، وهذا عن طريق فيلم جديد يحمل عنوان (Jackie) 2016، عُرض لأوّل مرة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، خلال فعاليات الدورة الـ13 من مهرجان دبي السينمائي الدولي، الذي جرت فعالياته من 07 الى14 كانون الاول 2016، ضمن برنامج "سينما العالم"، وهو عمل من إنتاج مشترك، بين الولايات المتحدة الأمريكية، الشيلي، فرنسا، وبريطانيا، من توقيع المخرج الشيلي الشاب بابلو لارين (Pablo Larraín)، الذي نقل من خلاله جزءاً من حياة زوجة الرئيس الأمريكي المُغتال جون كندي، وقد اعتمد فنيّاً على أشكال سردية متنوعة، نتجت عنها أربع ركائز مُهمة، شكّل من خلالها البناء الدرامي لفيلمه، الركيزة الأولى عكسها اللقاء الذي جمع جاكي (Natalie Portman)، بالصحافي (Billy Crudup)، في منزل الأخيرة، حيث بدأت تروي بعض الأحداث والتفاصيل التي تخص الاغتيال وعلاقتها الشخصية مع زوجها، والإرهاصات النفسية التي كانت تأتيها، بالإضافة إلى وقائع تحضير الجنازة والموكب الجنائزي، محاكاة للرئيس الأمريكي السابق المغتال لنكولن، والركيزة الثانية هو التقرير التلفزيوني المُصور، الذي أعد حول "جاكي" وهي من قدمت فيه، حين كانت السيدة الأولى في البيت الأبيض، حيث قامت وقتها ببعض التغييرات في هذا المكان التأريخي المهم، بغرفة المعيشة، صالون الضيوف، غرف النوم، وغيرها من الترتيبات التي رأت بأنها ضرورية، وقد كان هذا التقرير وقتها من أهم التقارير المُصورة التي نقلت ما يجول في البيت الأبيض وأركانه، إذ أرضى العديد من الفضوليين الذين كانوا يتطلعون لرؤية معيشة أسر الرؤساء، ناهيك عن أن التقرير سرد معظم المراحل التأريخية المهمة لهذا الصرح، والركيزة الثالثة، كانت الاعترافات التي قدّمتها "جاكي" للقس، وقد أدى هذا الدور (John Hurt)، الذي توفي يوم 25 يناير 2017، أما الركيزة الرابعة والأخيرة، فهي ما توفّر من الأرشيف الذي وثّق لحادث الاغتيال والموكب الجنائزي وكل ما له صلة بهذا الموضوع، حيث قام المخرج بتقطيع هذه الوثائق المصورة، وأعاد مزجها وفقاً لسياق درامي معين، اعتمد فيها على جماليات خلاّقة، وأخرى مكتسبة.
أجاد المخرج "بابلو لارين" استغلال الأرشيف والوثائق الفيلمية التي أرّخت لأحداث معينة، كانت "جاكلين" طرفاً فيها، سواء بشكل مباشر أو بطريقة ما، مثلاً حين يقوم ببث لقطات التقرير التلفزيوني الحقيقي لـ"جاكلين" المصور في البيت الأبيض، ويقوم بمزجها بلقطات ومشاهد خيالية جديدة، خاصة وأن الممثلة (Natalie Portman)، صاحبة القدرات التمثيلية الرهيبة، وتقمصها للأدوار إلى حد التطابق، هي من أدّت دور جاكلين، إذ يقوم بمزج ما هو أرشيف، بما يتم تصويره كتمثيل في الفيلم، وكأن المخرج أعاد إحياء صنّاع التقرير من جديدة، من مخرجة ومصورين ومساعدين، حيث أعاد تصوير هذه المشاهد، التي حتّمت عليه مثلاً جلب كاميرات تعكس تلك الفترة الزمنية التي تعود لأكثر من نصف قرن، ولإبراز قيمة التقرير في الفيلم يقوم الصحافي في المشهد الأول من الفيلم بسؤال "جاكي" عليه، حيث يخاطبها قائلاً، بأنها هي من قامت بتصويره، ويذهب أكثر من ذلك، إذ يقول ساخراً بأنها تصلح لتكون مذيعة، ويتهمها بأنها أعدت هذا التقرير لتظهر في الصحافة، أي أنها قدّمت نفسها ولم تقدم البيت الأبيض كما كانت تدعي، كل هذا من أجل أن يظهر المخرج أهمية التقرير الذي اعتمد عليه، أما عن أجمل استغلال للوثائق الفيلمية هو عند خروج "جاكي" مع ابنيها وروبرت أخو كندي(Peter Sarsgaard)، إذ كانت الصحافة والجماهير في الخارج، وعند صعودها للسيارة انعكست صورة الجماهير على زجاج نافذة السيارة حيث تنظر جاكلين، وهذا انعكاس لصور حقيقية من الأرشيف، وهنا مزج بين ما هو واقعي بما هو خيالي في صورة واحدة، ما شكّل جمالية كبيرة رغم محدوديتها الزمنية.
حياة جاكلين كندي مملوءة بالأحداث، المغامرات، الخيانات المتعددة، والخيبات المتكررة، لكن الفيلم لم يعرج على الكثير منها، واكتفى بتقديم إشارات لبعضها، سواء من خلال اعترافات "جاكي" للكاهن، أو بعض التصريحات التي قدمتها للصحافي وطلبت منه عدم نقل وكتابة الكثيرة منها، إذ كانت فضفضة فقط، هذا لأن الفيلم ركّز بشكل كبير على فترة زمنية محدودة، وهي أسبوع بعد الاغتيال، مع بعض الاسترجاعات، وكأن المخرج أراد أن يظهر الحب الكبير التي كانت تكنّه "جاكي" للبيت الأبيض، لأن هذه الحكاية أخذت حيزاً زمنياً كبيراً من الفيلم، حيث نجد بأن هناك سرعة كبيرة في تنفيذ الترتيبات، من أجل أن تخلي "جاكي" البيت الأبيض، لتترك الفرصة للرئيس الجديد، "ليندون جونسون" وحرمه، حيث نقل لنا المخرج مشهداً في غاية الأهمية والحزن في نفس الوقت، وهذا عندما همّت "جاكي" بمغادرة البيت الأبيض، وجدت في الرواق السيد الأولى الجديدة، وهي تختار نوع الستائر الجديدة التي ستضعها، بدل القديمة التي وضعتها "جاكي" عندما كانت السيدة الأولى، وكأن شيئاً لم يحدث.
ولأن الفترة التي نقلها الفيلم دقيقة جداً، فقد جاءت معظم المشاهد إن لم أقل كلها مملوءة بالأحزان والألم والمشاهد العنيفة، وهو عمل صعب قامت به الممثلة بورتمان، التي حافظت على ملامح حزنها، وعكست ملامح الفقد في وجهها، وحاكت بشكل كبير لكنة "جاكي" الحقيقية، حيث أبانت عن حجم التعب الذي قامت به من أجل أن يخرج الفيلم في هذه الصورة، أما مشاهد العنف فتلك التي عكسها حادث الاغتيال، حيث سقط رأس الرئيس (Caspar Phillipson)، على حجر "جاكي"، في حين تناثرت أجزاء كبيرة من الدماء ومخ الرأس على وجهها وثيابها، وقد تم تصوير هذا المشهد بدقة، عكس من خلاله حجم الحادث وقيمته التاريخية، ومن هنا تظهر حجم المسؤولية التي ألقيت على الممثلة (نتالي بورتمان)، صاحبة الـ35 سنة، التي سبق لها وأن تحصلت على جائزة الغولدن غلوب مرتين، كما تحصلت على جائزة الأوسكار لأفضل ممثلة رئيسة سنة 2011، عن فيلم "البجعة السوداء".
نذكر بأن الفيلم لم ينقل حياة "جاكلين كندي"، بعد قتل زوجها أو قبله، بل غيّبها، رغم إغرائها الدرامي، وقد نقلت العديد من الكتب والتقارير بأن المعنية كانت بطلة للعديد من العلاقات الغرامية مع شقيقه، السيناتور روبرت كندي الذي تم اغتياله هو الآخر سنة 1968، كما كانت لها علاقات غرامية كثيرة في الوسط الفني، أبرزها في عوالم السينما، مع مارلون برندو، ووليام هولدن، والمغني سيناترا، وهذا ردٌ على خيانات زوجها الرئيس المتكررة، مع الحسناء مارلين مونرو، كما تزوجت بعد 5 سنوات من وفاة زوجها، من رجل الأعمال اليوناني أرسطو أوناسيس، الذي بقيت على ذمّته حتى وفاته سنة 1975، كما أظهرت أشرطة كان من المفروض أن لا تظهر للعلن إلا بعد مرور 50 سنة، أحاديث لجاكلين وهي تتهم جنسون حين كانت نائباً لزوجها الرئيس بتدبير عملية مقتله، من أجل عقود عمل لرجال أعمال من تكساس، تعكسها حرب فيتنام.