TOP

جريدة المدى > عام > وجوه الحب الثلاثون..الحب وحده بقوته الجبارة يمكنه مجابهة الزمن

وجوه الحب الثلاثون..الحب وحده بقوته الجبارة يمكنه مجابهة الزمن

نشر في: 30 إبريل, 2017: 12:01 ص

 
|    4    |
في يوم حار من شهر تموز عام 1924 ظهر في المنزل الكبير لأسرة ماركيز دي إيجوران ، شاب اسمر  في الثالثة والعشرين من  العمر نحيف الجسم يبتسم كثيرا ، ويتحدث بلا توقف ، قدّم نفسه  للعقيد العج

 

|    4    |

في يوم حار من شهر تموز عام 1924 ظهر في المنزل الكبير لأسرة ماركيز دي إيجوران ، شاب اسمر  في الثالثة والعشرين من  العمر نحيف الجسم يبتسم كثيرا ، ويتحدث بلا توقف ، قدّم نفسه  للعقيد العجوز بخطاب توصية  اعطاه اياه قسيس كان صديقا لذلك العقيد ، لقد كان عامل التلغراف الجديد في آركاتاكا  ، وقد اخفى  تحت بشرته  البشوشة  شاب حالم يهوى الشعر الغرامي وعزف الكمان . كان  غابرييل إيليخيو ، قد عاش في طفولته وشبابه ظروفاً اقتصادية صعبة ، ومع ذلك استطاع ان يحصل على شهادة الثانوية  وان يلتحق بالجامعة لدراسة طب الاسنان ، لكن الفقر أضطره لترك الدراسة ، ليعمل موظفا للبريد يتنقل بين القرى ، وكان آخرها آركاتاكا التي شاهد فيها الآنسة لويسا سانتياجا في منزل العقيد ، ولم يكن لديه ادنى شك بعد تلك النظرة ان هذه الفتاة ستصبح زوجة له .

ففي عام 1925 أفصح لها عن حبه  واقترح عليها الزواج في ظل شجرة اللوز بمنزل العقيد ماركيز إيجوران ، واكد لها انها كانت سبب أرقه وسهاده ، واطلق اأمامها واحدة من أقل العبارات رومانسية  :" اصغي  ياسيتيوريتا ماركيز ، كنت ساهراً طوال الليل  افكر في انني بحاجة  إلى الزواج ، وأن المرأة  التي سكنت فؤادي هي أنت  ، ولا أحب اي امرأة  اخرى فأخبريني  ان كان لديك  اية مشاعر روحية تجاهي ،  لكن لا تظني  انكِ مضطرة الى الموافقة، لأنني  على وجه التاكيد  لا اموت حباً فيك  ، وسأمنحك اربعاً وعشرين  ساعة  للتفكير في الأمر " . وبعد اكثر من خمسين عاما سيجلس الكولومبي غابريل  غارسيا ماركيز ليستعيد مشهد شجرة اللوز ، وهو يكتب  الجملة الاولى من روايته الحب في زمن الكوليرا " لا مناص فرائحة اللوز تذكره دوما بمصير الغراميات غير المواتية " .
كانت لوسيا في التاسعة عشرة من عمرها ، مدللة الى حدٍ ما ، ويخبرنا ماركيز في مذكراته " عشت لأروي "  بأن والدته لم تكن فائقة الجمال ، لكنها كانت جذابة ، مفعمة بالحيوية  ، ويخبرنا ان أسرة جده  كانت ترفض كل  الخاطبين الغرباء ، ولهذا سرعان ما تم اخبار العقيد عن مناورات موظف التلغراف  مع ابنته لوسيا ، فقرر ان يرسلها في رحلة طويلة خارج المدينة عند بعض الأقارب ، لكن خطته مُنيت بالفشل ، فالمحارب القديم الذي خاض معارك عديدة ، لم يحسب حساب عامل التلغراف الذي كان يضع خططا أستراتيجية للفوز بقلب لوسيا ، في رواية " الحب في زمن الكوليرا "  ، يروي لنا ماركيز حكاية الرسائل  المشفرة التي كان يمررها عمال التلغراف الى لوسيا في كل مكان تصل اليه ، وهكذا كانت خطابات ورسائل العاشق تصل الى لوسيا التي كانت تخفيها في ثنايا الموقد حتى لا تصل اليها نظرات والدتها التي رافقتها في رحلة المنفى ، وكانت الأم قد ادركت ان خطة العقيد ستفشل ، وان البعد لن يستأصل هذا الحب ، بل سيساعد على توهجه وتأججه اكثر فاكثر ، وبالفعل فما ان نزلت الأم وابنتها من السفينة الشراعية التي عادت بهما الى آراكاتاكا ، تنبهت الام الى ان موظف االتلغراف  كان اول مَن استقبلهما في الميناء ، وهو يرتدي بدلة جديدة ويحمل بيده باقة ورد حمراء .   في عام 1926 يتلقى العقيد ماركيز رسالة من صديقه القسيس بيدرو إسبيخو يطلب منه ان يوافق على زواج ابتنه من عامل التلغراف ، لأن الاثنين مغرمان ببعضهما بعضاً ، وان الزواج من شانه ان يجنب حدوث " مصائب أسوأ " ، واخيرا يرق قلب العقيد فيوافق على الزواج ، ويخبرنا الروائي الشهير ماريو فارغاس يوسا ، نقلا عن صديقه ماركيز ان العقيد أصر على  ان يقام حفل الزواج خارج آراكاتاكا ، وهكذا قررا السفر الى مقاطعة ريوهاتشيا ، وفي السفينة التي أقلّت العروسين أعترف عامل التلغراف لعروسته انه ترك وراءه طفلين غير شرعيين ، وانه أغوى قبلها عددا من النساء حتى أُطلق عليه لقب كازانوفا ،  لكنه منذ لحظة رؤيتها  قرر ان يعيش حياة جديدة ، يتعرف فيها لاول مرة  على معنى الحب الحقيقي.
بعد ثمانية عشر شهراً تعود لوسيا الى بيت العقيد ، كانت في الشهر الثامن من حملها الذي كان السبب في ذوبان جليد العلاقة بين معامل التلغراف والعقيد ماركيز ، وفي يوم الاحد السادس عشر من اذار سنة 1927 وعند الساعة التاسعة صباحا ، ولِدَ الابن غابريل غارسيا ماركيز  وكان ضعيف البنية واقترحت العمة فرانسيسكا ان يرشوا عليه الشراب وماء التعميد خشية حدوث مضاعفات صحية له  ، وأخبر العقيد بولادة ابنته  وكان في الكنيسة فترك القداس وعاد مسرعا ، ليحتفل بولادة حفيده ، ولتصبح قضية زواج ابنته من الماضي ، فالحياة ستستمر ، وسيكرس الجد كل طاقاته  لحفيده الذي اطلق عليه لقب " نابوليوني الصغير " .
****
انتصار الحب
في عام 1984 يعود غابريل غارسيا ماركيز الى آركاتاكا ، ذلك المكان الذي الهم روايته الاولى عاصفة الاوراق . أنه يريد ان يملأ الفجوات  المفقودة في روايته الكبيرة "مئة عام من العزلة "، فأديب نوبل اكتشف انه يعاني من عقدة اوديب التي دفعته لإزاحة أبيه من الاحداث واستبدله بجده العقيد ، كان الاب  غابريل اليخيو قد عاد ايضا الى آركاتاكا ، ليصبح نجم القرية بعد ان حصل أبنه على جائزة نوبل ، ونراه ينعم وربما للمرة الاولى بالمجد الذي انعكس عليه لانه والد أشهر اديب في اميركا اللاتينية .
كان ماركيز ينهض يومياً عند الساعة السادسة صباحا ، يقرأ الصحف ويهيء نفسه للتخطيط لكتابة روية جديدة ، وقد قرر ان يترك الآلة الكاتبة ويستخدم الحاسوب للمرة الاولى في حياته ، ولم يكن الحاسوب هو التحول الوحيد في حياته ، لكنه قرر ان يعيد النظر بعلاقته بوالده ، فعلى مدى سنوات طويلة لم يتكلما الا نادراً ، واليوم يعيشان بنفس المكان ، فكان لابد ان يتصالح الابن مع أابيه ، بما يكفي لأن يذهب بين الحين والآخر ليتكلم معه ومع والدته كل على انفراد يسألهما عن شبابهما وقصة الحب التي عاشاها ، والتي كان يسمع بعضاً منها في منزل الجد ، كان الدافع وراء ذلك رواية جديدة ، لكنه يعترف في حواره الموسع " رائحة الجوافة " مع بيلينيو ميندوثا ، بأنه كان يشعر بالذنب تجاه أبيه  وكان لابد ان ينظر اليه نظرة اقل قسوة واكثر رأفة .
ورغم ان الامر كان صعبا في بداية الامر ، فالأبن لم ينسَ ان غابريل إليخيو هو الرجل الذي اخذ أمه ، ثم قرر ان يبعده عن جده المحبوب ، وكيف كان يطلق التهديدات ليحافظ على سلطته الابوية ، لكنه بالمقابل استطاع ان يحافظ على اسرة كبيرة تأكل وتلبس وتتلقى تعليما جيدا ، وكان ماركيز قد صرح لإحدى الصحف الكولمبية بعد فوزه بجائزة نوبل انه ليس اكثر من طفل من الاطفال الستة عشر لعامل تلغراف في آراكاتاكا  الأمر الذي اثار غضب الاب الذي خرج على الصحافة ليقول  ، انه لم يعمل عامل تلغراف الا مدة قصيرة ، وانه الآن طبيبا محترفا وشاعرا وعازف كمان وروائياً ايضاً ، كان عامل التلغراف يشعر بالإهانة لان الاضواء سلطت على ذكرى الجد العقيد ، فيما الاب غابريل اليخيو لم يُذكر قط ، وكان يشعر انه مستبعد عمداً . في أواخر عام 1984 كان ماركيز قد انتهى من كتابة الفصول الثلاثة الاولى من رواية " الحُب في زمن الكوليرا " ، وبدت ملامح الرواية تتضح ،  كان يذهب بين الحين والآخر ليتحدث مع أبويه من اجل الحصول على معلومات دقيقة عن الفترة الزمنية التي شهدت قصة حبهما ، وأخذ يكتب دراسة ملخصة عن مفهومه للحب ، ويخبر كاتب سيرته جيرالد مارتن انه تذكر ولعه ايام الشباب بقراءة اعمال شكسبير ، وكيف ان عبارة شكسبير " الحب وحده  ، بقوته الجبارة  يمكنه مجابهة الزمن " التي جاءت على لسان اوفيليا في هاملت  كانت تسحره . كان شكسبير يتحدث عن قوة الحب  تلك القوة التي لا تتغلب عليها اية صراعات وجودية . وتحضر لماركيز من خلال مسرحيات شكسبير التي اعاد قراءتها  تحولات  الحب ، وكيف أن سهم كيوبيد  قوي جدا ، ويؤكد ماركيز في لقاء اجراه معه داسو سالديبار ونشر في كتاب رحلة الى الجذور، ان شكسبير وخصوصا في روميو وجوليت لم يكتب قصة حب مجردة ، وانما قدم الحب الذي يسعى للتغلب على الصراع الاجتماعي ، كان شكسبير يريد ان يخضع المجتمع الاقطاعي الى قانون الحب والوفاق الانساني:
الحب – منارة للسفن
تلجأ اليه في العاصفة والضباب
الحب – نجم يزرع الأمل في المحيط
" روميو وجوليت "
ويضيف ماركيز : لو شاهدت نصوص  شكسبير التي تعرض  صراعات المحبين في مواجهة تسلط المجتمع واستبداده  ، يمكن ان تعطيها كلها عنوان واحد " انتصار الحب " .تحت هذا العنوان يحكي لنا شكسبير كيف ان هؤلاء المحبين  يحققون في النهاية ما يريدون . انه انتصار الحب وليس استمراريته .وقد بنيت الاعمال الادبية العظيمة  حول استحالة الحب  وتراجيديته وفراقه ونهاياته المأساوية ،  لكن القليل منها يدور حول استمرارية هذا الحب .. كنت دائما افكر في قصة حب على غرار ما كتبه صامؤيل بيكت في " أيتها الايام الجميلة "  قصة حب عن عجوزين . في مشهد نرى المرأة تغرق في التراب ، لكنها تقول " كم كانت أياماً جميلة "  انها تقول هذه الجملة لانها على يقين ان الحب  مازال موجودا ، فالحب هو العنصر  الثابت والقوي الذي بنت عليه وجودها في الحياة ، في هذا النص  القصير والمكثف يحكي لنا بيكت قصة حب عنيدة في استمراريتها . هكذا قرر ماركيز ان يروي قصة غرام أبويه من خلال حكاية رجل وامرأة أُغرم احدهما بالآخر ، لكنهما لا يستطيعان الزواج  فقد بلغا الثمانين من العمر بعد ان شهدا تقلبات الزمن الذي لم يستطع القضاء على استمرارية الحب  ، ويقول ماركيز لجيرالد مارتن ان الحب في زمن الكوليرا بالنسبة له مغامرة شيقة ، لأنه استخدم فيها كل وسائل الثقافة الجماهيرية ، وكل ما شاهده في المسلسلات الاجتماعية الميلودرامية  وما سمعه من اغتي البوليرو ، فالرواية التي تبدو  متأثرة بما كتبه فلوبير وستندال وبلزاك ، تبدأ في جنازة وتنتهي  نهاية سعيدة على متن قارب صغير.
 بعد ان انتهى ماركيز من كتابة نصف الرواية في اواخر عام 1984 توفى والده غابريل اليخيو غارسيا ، بعد الاحتفال بذكرى ميلاده الثالثة والثمانين ، كان المرض قد داهمه فجأة ، وفي الثالث عشر من كانون الاول 1984 يصل ماركيز للمشاركة في دفن ابيه ، ونراه للمرة الاولى يشعر بفقدان الاب ، بعد ان استطاع في السنوات الاخيرة تجديد العلاقة معه ، لقد اصبح الأقرب اليه من جميع افراد الاسرة ، وفي مراسيم الدفن تخبره امه انه اصبح الان مسؤولا عن العائلة ، ونجده يسألها عن مشاعرها بعد وفاة والده فتجيبه : كان حبي الاول ، وسوف اكون أمينة على حبه دائما .
وعندما يلتقي ماركيز بصديقه داسو سالديبار  يخبره بانه يشعر بحالة يُتم وعذاب ، وعندما يسأله عن روايته الجديدة يقول ماركيز: " انها في حالة طفو على السطح ، أعرف ما الجملة الاخيرة التي سأكتبها في الرواية  حتى قبل ان اجلس لكتابتها على الورق ، لأنني لا ازال افكر فيها منذ سنتين " ، ويتحدث سالديبار عن ان ماركيز اصبح صاحب اسوأ مزاج هذه الايام ، ربما بسبب انتظار ما سيقوله القراء عن روايته الجديدة التي تتحدث عن الحب والجنس في جو يبعث على الغرابة ، لكنه يحمل الكثير من الجاذبية .
عندما نشرت الحب في زمن الكوليرا عام   1985 كان الإهداء موجّهاً " الى ميرثيديس طبعاً " .

****
المرأة التي أبحث عنها
كانت ميرثيديس  هي المرأة التي اختار الارتباط بها منذ سنوات ، وقد شغلت ذهنه منذ ان كانت في التاسعة من عمرها ، أبنة صيدلي شاهدها في حفل راقص للطلاب  ، وقرر وقتها ان يتزوجها بعد الانتهاء من دراسته ، وعندما بلغت الثانية عشرة من عمرها حدثها عن رغبته في خطوبتها ، ونجده  بعد عشر سنوات يقرر ما اذا كانت ميرثيدس على وعدها له ، لقد ظلت طوال اكثر من عقد من الزمان  لا تغادر تفكيره ، والآن ما الذي سيقوله لها بعد ان قرر مغادرة كولومبيا لينأى بنفسه من تهديدات الحكومة التي قد تعمد الى اتخاذ اجراءات ضده بسبب مواقفه العدائية منها ، ولهذا عندما واتته الفرصة للسفر الى اوروبا رحب بها فورا ، لكنه الان يخاف ان تضيع المرأة التي احبها ، مثلما ستضيع منه كولومبيا ، وبالتالي فانه يريد ان يجد شيئا يربطه بالبلاد ، فقد كانت ميرثيديس  تنحدر من نفس المدينة التي ولد فيها ، وبالتالي فجذورها هي جذوره ايضاً ، وسيضمن وجود شخص الى جواره  يفهمه بشكل جيد ، يخبر كاتب سيرته جيرالد مارتن انه لم يجد فيها مواصفات الجمال الباهرة ، بل وجد انها تمثل خياراً أستراتيجيا واقعيا تماما واتحادا مثاليا ، ويصف احد كتّاب سيرة ماركيز الكولومبي داسو سالديبار ميرثيديس بأنها  " امرأة طويلة وجميلة ذات شعر بني يرتخي على كتفيها، وحفيدة أحد المهاجرين المصريين، وهو ما يبدو جلياً في عظامها العريضة وعيونها الواسعة ذات اللون البني. "
هل كانت ميرثيديس اول حب في حياة ماركيز ؟  في مذكراته " عشت لاروي الصادرة عن دار المدى ترجمة صالح علماني " يحدثنا صاحب مئة عام من العزلة عن امرأة اخرى اسمها مارتينا فونسيكا كانت هي حبه الاول ، تعرف عليها عندما كان مراهقا في الخامسة عشرة من عمره ، وكانت هي متزوجة ، طاردها بالرسائال فقررت ان تضع حدا لطيشه خوفا من الفضيحة  ، لكنه بعد سنوات عام 1954 يسمع صوتها عبر الهاتف  ويقابلها في احدى المقاهي ، ويفاجأ بملامح تقدم السن الواضحة على وجهها  وتسأله ان كان لا يزال يشتاق اليها :" عندئذ فقط اخبرتها بالحقيقة  وهي انني لم انسها قط ، لكن وداعها كان قاسيا جدا غيَّر من وجودي " .
واخبرت انها كانت تريد ان تطمئن على احواله " ويخبرها بانه كان يشتاق لرؤيتها .
في عام 1958 كان ماركيز يعيش في كاركاس عاصمة فنزويلا ، صحفي لامع روايته ليس للكولونيل من يكاتبه نجحت نجاحا كبيرا حتى ان الصحافة الفرنسية اعتبرتها واحدة من انجح الروايات وشبهتها برائعة همنغواي "الشيخ والبحر" ،  كانت ميرثيديس لاتزال تنتظره في كولومبيا ، وفي يوم مشرق قال لصديقه بلينو ميندوثا وهما يجلسان في احدى حانات كاراكاس بعد ان اطال النظر الى ساعته :" تباً ستفوتني الطائرة " فسأله بلينو الى أين سيذهب ؟  فيجيب وهو ينهض ": سأتزوج " . عام 1958 تنتقل ميرثيديس الى عالم زوجها الجديد الذي لا تعرف عنه ، وستمضي سنوات قبل ان تشعر بالاطمئنان الى هذا الرجل  الذي يبدو انه منبسط ولكنه كتوم  وغامض الى حد بعيد ايضاً .

 ****
حب والحرية والشيخوخة
تدور أحداث رواية " الحب في زمن الكوليرا  في مدينة كاربيه بين سبعينيات القرن التاسع عشر وثلاثينيات القرن العشرين ، انها تدور عن الحب والزواج والحرية والشباب والشيخوخة : الطبيب خوفينال اورينو المنتمي الى الطبقة العليا ، ويقابله موظف الشحن فلورنتينو اريثا  المفتقر الى الجاذبية  وثالثهم الحسناء فيرمينا ، التي هي مزيج من امه لوسيا وزوجته ميرثيديس ، تبدأ احداث الرواية في يوم احد في ثلاثينيات القرن الماضي ، حيث يلقى خوفينال اورينو مصرعه وهو قي العقد الثامن من عمره عندما يسقط عن سلم ارتقاه في محاولة لانقاذ ببغاء الاسرة ، وفي جنازة اورينو يحاول فلورينتيو  محبوب فيرمنا السابق ان يذكي ذكريات مضى عليها عشرات السنين عندما كانا مراهقين ، حيث سيظهر وسط  المعزين  وكانت مساعداته الكثيرة لا تقدر بثمن في ساعة الشؤم التي يمر بها البيت، ولكن كان ثمة أمران يثيران الشكوك في 'عازب متمادٍ في عزوبيته، لقد انفق مالا كثيرا وحيلا واسعة وتصميما شديدا كي لا تظهر آثار السنوات الست والسبعين التي أتمها وكان مقتنعا في عزلة روحه بأنه أحب بصمت أكثر بكثير من أي كان في العالم. وعندما رأته فيرمينا داثا في آخر أيام عزاء زوجها، كانت المرة الأولى التي تراه فيها، ولكن قبل أن تتمكن من شكره لهذه الزيارة، وضع قبعته فوق موضوع القلب وقال لها بصوت مرتعش ووقور.. لقد انتظرت هذه الفرصة لأكثر من نصف قرن، لأكرر لك مرة أخرى قسم وفائي الأبدي وحبي الدائم'. كان فلورينتينو شاباً بريئاً حين  تعرف إلى فيرمينا داثا ، كانت تعيش مع عمتها وأبيها الذين قدموا للعيش هنا هرباً من انتشار مرض الكوليرا، اشتروا لأنفسهم بيت البشارة ورمموه. وكان ذلك مؤشراً على أنهم في بحبوحة من العيش. كانت الابنة فيرمينا تدرس في مدرسة ظهور العذراء المقدسة، وأحبها فلورينتينو منذ رآها وله من العمر ثماني عشرة سنة. وكان يكبرها بأربع سنوات. رسم لها في مخيلته صورة مثالية. وسرعان ما وجد هذا الحب صداه بتبادل المشاعر، والأحلام. قالت لها عمتها في إشارة لفلورينتينو الذي يجلس في الحديقة ليراهما تمران:
"لا يمكن إلا أن يكون مريضاً بداء الحب.. ولا بد من العيش طويلاً لمعرفة الطبيعة الحقيقية للرجل" . وصدقت العمة قبل أن تكون هي واسطة لنقل رسائله، فضلاً عن أماكن سرية يخبئان فيها رسائلهما التي استمرت لأربع سنوات، ليجداها أحيانا مبللة بماء المطر. كان فلورينتينو يرسل لها أبيات شعر محفورة برأس دبوس على وريقات زهرة كاميليا. وما إن عرف والد فيرمينا بقصة حب ابنته وبمساعدة عمتها لها حتى ثار وطرد أخته وأجبرها على الإبحار بعيداً، ثم حاول إغراء ابنته بكل أنواع التملـّـق، وحاول إفهامها أن الحب في سنها ما هو إلا سراب، وطلب منها أن تعيد الرسائل. وأمام رفض فيرمينا لطلب والدها، أجبرها على رحلة النسيان بعيداً عن هذا المكان، كانت رحلة مجنونة استمرت أحد عشر يوماً ثم مكثا بعيداً طويلاً وحين عادا إلى بيتهما كانت فيرمينا مريضة، وشكوا في أنها تعاني من الكوليرا.
كان على الدكتور خوفينال أوربينو العازب والعائد من باريس أن يعالج فيرمينا. وسرعان ما سقط دون مقاومة أمام مفاتن فيرمينا رغم أنه يكبرها بعشر سنوات. وسرعان ما تقدم لخطبتها، والدها وجد فرصة مثالية بالدكتور خوفينال. كان فلورينتينو مقتنعاً في عزلة روحه بأنه قد أحب بصمت أكثر بكثير من أي كان في هذا العالم، وجئت لأكرر لك مرة أخرى قسم وفائي الأبدي.
لم ييأس فلورينتينو فبدأ بإرسال الرسالة تلو الأخرى، حتى باتت طقساً يومياً، وكان مستعداً لإخضاع صبره لتجربة أكبر، إلى أن يجد دليلاً قاطعاً على أنه يضيع وقته بهذا الأسلوب، حتى بلغت رسائله مئة واثنتين وثلاثين رسالة من دون أن يتلقى أي رد، وانتظر فعلاً دون الإحساس بالقلق الذي كان يسببه له الانتظار في شبابه.. انتظر بعناد شيخ صلب.
وهكذا وجدا نفسيهما بعد نصف قرن من الانتظار، عجوزين يترصدهما الموت، لا يجمعهما سوى ذكرى ماضٍ غابر. واقتنع فلورينتينو بأن فيرمينا ما زالت على شراستها التي كانت عليها في شبابها، لكنها تعلمت أن تكون شرسة برقة، فها هو يقتحم عليها بيتها من دون موعد، مسبباً لها صدمة، وطالباً منها موعداً ليشربا الشاي معاً. وجه فلورينتينو دعوة رسمية لفيرمينا لتقوم برحلة استجمام عبر النهر، وبعد انطلاق السفينة عزفت الفرقة الموسيقية مقطوعة شعبية دارجة، واستمرت الفرقة في العزف حتى منتصف الليل، بقى القلبان وحدهما في الشرفة المظلمة يعيشان إيقاع أنفاس السفينة، مدّ فلورينتينو يده الباردة في الظلام وبحث عن اليد الأخرى. ولكي يظلا أطول فترة ممكنة اقترح فلورينتينو أن يرفعوا على السفينة علم حملها وباء الكوليرا، لتبحر في النهر جيئة وذهاباً، فقد عاشا معاً ما يكفي، ليعرفا أن الحُب هو أن نحب في أي وقت وفي أي مكان، وأن الحُب يكون أكثر زخماً كلما كان أقرب إلى الموت.

****
فشل اللصوص
فرغ ماركيز من روايته وانهاها بعبارة " مدى الحياة " وارسلها الى ناشرة ليقرأها وتسلمت سكرتيرته كارمن بالسليس نسخة من الرواية  وقالت انها امضت يومين تبكي فوق المخطوطة. وفي خريف عام 1985 سافر الى برشلونة، نزل في فندق الاميرة صوفيا، وفي ذلك الوقت اقتحم لصوص غرفته، وهذا ما كان يخشاه، لم يسرق منه حاجيات لكنه اخبر الصحافة انه لم يكن يتصور ان اللصوص كانوا يريدون الاستيلاء على مخطوطة الحب في زمن الكوليرا التي كانت ثلاث اقراص معلقة في رقبته.
في الخامس من كانون الاول 1985 صدرت الحب في زمن الكوليرا  فاثارت دهشة القراء  والنقاد في جميع انحاء العالم ، لانها قدمت اليهم ماركيز من طراز جديد ، رجل يكتب عن الحب والسلطة  وتغدو الروابة الاكثر شعبية بين القراء، ويضعها النقاد بمصاف الاعمال الكبرى التي صدرت في القرن التاسع عشر الى جانب انا كارنينا وكبرياء وهوى, والأحمر والاسود ومدام بوفاري ومرتفعات وذرينغ .

 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

رولز رويس أم تِسْلا؟

جُبنة ألسخوت(*)

موسيقى الاحد:أريش فولفغانغ كورنغولد

صورة سيفو في مرآة الوهايبي

نادي السرد في اتحاد الأدباء يحتفي بالقاص حميد الزاملي

مقالات ذات صلة

"لِوِيسْ بَاراغَانْ"" src="https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2025/02/5852-7-2.jpg">
عام

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا > "لِوِيسْ بَاراغَانْ"

د. خالد السلطاني معمار وأكاديمي هل بمقدور نوعية <ناتج معماري> محدد أن يؤسس لسمعة معمارية عالمية؟ وهل بوسع <مفردات> معمارية بسيطة ومتواضعة.. ومحتشمة ان تكرس مثل ذلك التمجيد وتضفي ثناءً ومديحاً لمعمارها المصمم؟ وهل...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram