(3-4)
في العمود الماضي تحدثت عن الحوار الذي جرى بين الحمّال والنساء الثلاث، وكيف يقدم نفسه في الحكاية، وللبنات، "وحياتكن اني رجل عاقل أمين قرأت الكتب وطالعت التواريخ اظهر الجميل واخفي القبيح". كل شيء يشير أنه مثل النساء هو الآخر إذن صاحب سر. ما يدور بعد ذلك هو أمر غريب، إذ تطلب منه إحدى الفتيات انه إذا أراد البقاء معهن، الجلوس معهن ويصير نديمهن حتى تطلع وجوههم الصباح الملاح، فعليه أن يدفع لهن مبلغاً من المال، لأن المكان الذي هنّ فيه كلفهن جملة من المال، أو كما قالت صاحبة الدار "إذا كانت بغير المال محبة فلا تساوي وزن حبة"، بعد ذلك طبعاً يجلس الحمال معهن، يشرب معهن الشراب، وهن في رقص وغناء ومشمومات، وهذه تجذبه وتلك بالمشموم تضربه، ولا يهم أن الخمور لعبت بعقولهن، لأنها البداية للدخول لحكاية جديدة، حكاية الصعاليك الثلاثة الذين سيقودهم طريقهم أيضاً إلى البيت.
أما دخول الخليفة هارون الرشيد ومعه وزيره وصديقه جعفر البرمكي، فيريد أن يقول لنا، أننا في بغداد هارون الرشيد، أي بين عام 786 و809 م الفترة التي حكم فيها الخليفة العباسي الخامس، أنها مناسبة أيضاً لنعرف أن الخليفة هذا، الذي اشتهر بالحذر، والذي اعتاد على بث عيونه وجواسيسه بين الناس ليعرف أمورهم وأحوالهم، وأنه أحياناً كان يطوف بنفسه متنكراً في الأسواق والمجالس ليعرف ما يقال فيها، أنه خليفة عادل، ورع ومتدين، تسيل عبراته عند سماع الموعظة، وأنه لا يقبل ظلم.
في نهاية الحكاية التي تستمر تسع ليالي، حتى الليلة الثامنة عشرة، تنتهي القصة نهاية سعيدة، إلى أولاً: زواج المرأة الأولى، الدلالة التي قادت الحمال إلى البيت بالخليفة هارون الرشيد، "ثم أن الخليفة تزوج بالدلالة ورقد تلك الليلة معها فلما أصبح، افرد لها بيتاً وجواري يخدمنها ورتب لها راتباً وشيّد لها قصراً"، ثانياً: زواج الأخوات الثلاث بالصعاليك الذين ظهروا أنهم ملوك، والذين وظفهم الخليفة "حجاباً عنده واعطاهم ما يحتاجون اليه وانزلهم في قصر بغداد"، ثالثاً: أما الصبية المضروبة التي تظهر مسحورة على شكل كلبة في الحكاية الداخلية، "حكاية الصعاليك الثلاثة"، فزوجها من ابنه الأمين. في النهاية نحن إذن أمام تبادل بالأدوار. وذلك هو ديدن ألف ليلة وليلة في كل حكاياتها. هناك تبادل دائم بالأدوار. السلم الطبقي غير ثابت. غير أبدي. صعود وهبوط. مثل لعبة حيّة ودرج. مثل لعبة مونوبولي.
بهذا الشكل، تكون الليلة التاسعة، أو حكايات "الحمّال مع البنات"، بكل التفاصيل "الواقعية" التي افترضتها، والتي هي خيالية أكثر، أرادت تقديم صورة عن بغداد العصر العباسي، شعب يعيش في رفاهية واستقرار اقتصادي وحرية من ناحية، ومن ناحية أخرى ملك (هارون الرشيد) عادل يسهر على خدمة الناس، رغم أن الحكاية بما صورته أيضاً من طرب ومجون قدمت صورة أخرى عن بغداد، من الجائز جداً، أن الحكاية لم تتعمد ذلك، لكن قوة الصورة التي تضمنتها، فرضت نفسها علينا كقرّاء، خاصة أولئك القراء البعيدين عن بغداد. وهي الصورة هذه التي ارتبطت في ذهن الأوروبيين في المقام الأول: صورة بغداد اللاطبقية، بغداد النساء الجميلات، اللواتي يعشن لوحدهن، لا يترددن من استقبال الرجال في بيوتهن، يشربن معهم، يغنين ويرقصن، صورة بغداد "ألف ليلة وليلة"، التي لم تغب عن خيال، عن ذهن أي رحالة توجه إلى الشرق عامة، فكيف هي الحال إذا توجه إلى بغداد؟ طبعاً الحديث عن "ألف ليلة وليلة" كلها، بصفتها كتاب جامع لحكايات مختلفة، أو بصفتها "الرواية الشرقية الشهيرة"، هو أمر آخر، وهذا ما سآتي عليه في عمود الأسبوع المقبل.
 يتبع