مواجهة ساخنة. ابتسامات ساخرة. نظرات تهكّم وتبادل للاتهامات.. تلك هي الأجواء التي طغت على المناظرة التلفزيونية بين إيمانويل ماكرون المرشح المستقل للانتخابات الرئاسية الفرنسية ونظيرته مارين لوبن الرئيسة السابقة للجبهة الوطنية٬ حزب اليمين المتطرف
مواجهة ساخنة. ابتسامات ساخرة. نظرات تهكّم وتبادل للاتهامات.. تلك هي الأجواء التي طغت على المناظرة التلفزيونية بين إيمانويل ماكرون المرشح المستقل للانتخابات الرئاسية الفرنسية ونظيرته مارين لوبن الرئيسة السابقة للجبهة الوطنية٬ حزب اليمين المتطرف الفرنسي. ركزت مارين لوبن خلال المناظرة التلفزيونية التي كانت أشبه بحلبة ملاكمة على تجريد منافسها من المصداقية بشأن الملف الإقتصادي إذ نسبت إليه كل الفشل والإخفاقات التي مُني به الحزب الإشتراكي الحاكم كونه شغل منصب وزير الاقتصاد خلال عامين قبل أن يقدم استقالته ويؤسس حركته الثورية "إلى الأمام" في عام ٢٠١٦.
وصف إيمانويل ماكرون بمرشح العولمة لم يكن بالأمر الجديد في خطاب مارين لوبن.. إلا إنها المرة الأولى التي يتلقى فيها ماكرون هذا الإتهام وجهاً لوجه.. فقد أكدت لوبن خلال المواجهة التلفزيونية بأن ماكرون هو: "مرشح العولمة المتوحشة والهشاشة الإجتماعية والتخريب الإقتصادي وحرب الجميع ضد الجميع. كل شيء يمكن أن يباع ويشترى بنظر السيد ماكرون٬ حتّى الإنسان".
سعت لوبن إلى تقليص الفارق الذي يفصلها عن منافسها حسب استطلاعات الرأي التي سبقت المناظرة التلفزيونية. إلا أن منافسها ماكرون واجهها بنفس السلاح ليتهمها بالجهل في الجانب الإقتصادي كما تعمد استفزازها بالقول: "كل ما تقولينه هو حماقات٬ فرنسا تستحق أحسن منك".
الملف الأكثر حساسية في برنامج المرشحين هو ملف الأمن والإرهاب.. فالمرشحة اليمينية تبدو أكثر راديكالية من منافسها إذ تقترح إبعاد كل من يشتبه بتورطه بأعمال إرهابية أو بالتعامل مع مجموعات إسلامية متطرفة كما تعتزم اتخاذ اجراءات صارمة من ضمنها طرد الارهابيين لأنهم أساءوا لتقاليد الضيافة٬ على حد زعمها، وسحب الجنسية من المتورطين باعتداءات ارهابية من قبل مزدوجي الجنسية.
إلا أن ماكرون يرى أن هذه السياسية لن تمنح فرنسا غير مشاكل جديدة قد تسوق البلاد إلى كارثة كبيرة: "مكافحة الإرهاب لا تعني بأي حال من الأحوال الوقوع في فخ الحرب الأهلية. أنت تجلبين الحرب الأهلية إلى البلاد وهذا ما يريده الإرهابيون". دافع ماكرون عن نفسه ليوضح أكثر الملف الأمني الذي لا يغيب عن برنامجه الرئاسي إلا أنه ذو رؤية مغايرة. فهو يقترح توسيع الدعم لقوى الأمن والمخابرات دون أن يفكر بتغيير قانون الجنسية أو إجراءات الإقامة.
كما حاول تجاوز التوتر الذي يطغى على العلاقات الفرنسية الجزائرية من خلال الإعتراف بأن فرنسا قد إرتكبت بالفعل جرائم فضيعة بحق الجزائريين خلال فترة الإحتلال التي دامت قرابة ١٣٠ عاماً. وأكد لمارين لوبن بأنه يسعى لسلك درب جديد في السياسة٬ وهو درب مختلف عما اعتادت عليه هي ووالدها٬ بكونها ورثت رئاسة حزب الجبهة الوطنية عنه.. تعتبر لوبن برنامجها الأنتخابي هو الأقرب إلى آمال وتطلعات المواطن الفرنسي الذي مازالت الأزمة ترخي بظلالها على قدرته الشرائية الآخذة بالتنازل منذ الأزمة الاقتصادية الأوروبية في عام ٢٠١٠ خلال عهد الرئيس السابق نيكولا ساركوزي.
فقد أكدت مسبقاً بأن: "العولمة العشوائية تهدد حضارتنا. ومن المفترض اعادة النظر بظاهرة الغياب التام للضوابط دون حماية ما يسبب بالتالي انتقال الوظائف إلى خارج البلاد". فهي تتعارض مع ماكرون الذي يعتبر العولمة فرصة للازدهار الاقتصادي.
لم تفوت لوبن الفرصة لتحذر الفرنسيين خلال المناظرة من خطر العولمة واعتبرتها تهديداً لا يمكن التغافل عنه. ومن هذا المنطلق تقترح إعادة التفاوض حول المعاهدات التجارية العالمية وإعادة العمل بالضوابط الجمركية عن طريق فرض ضريبة بقدر ٣% على بعض البضائع. لكن ماكرون ذكرها بأن هذا المقترح سيتسبب بارتفاع الأسعار في فرنسا وبالتالي سيعود برنامجها بالضرر على المواطن بدلاً من تقديم التسهيلات. تقترح لوبن استفتاء بشأن مصير العملة الأوروبية الموحدة اليورو لأن: "الأسعار ارتفعت عندما انتقلنا إلى اليورو وتم التستر على هذا الواقع". وبالتالي ستترك الكلمة الفصل للفرنسيين بشأن رغبتهم بالبقاء في منطقة العملة الموحدة اليورو أو العودة إلى الفرنك الفرنسي٬ على غرار الاستفتاء الذي تم تنظيمه في عام ٢٠٠٥ والذي انتهى برفض مقترح الدستور الأوروبي الموحد.
ولامت خصمها إيمانويل ماكرون بكونه يسعى إلى تعزيز التبادل الحر من خلال ترسيخ الاندماج الأوروبي بين منطقة اليورو وكندا دون تنفيذ موازنة تخدم أوروبا. أما هي فتعتبر نفسها ذات روح وطنية اقتصادية. فقد أكدت مسبقاً لصحيفة اللوموند بأنها لم تعثر على فقرة واحدة في برنامج إيمانويل ماكرون تشير بأنه يحب فرنسا.
إلا أن ماكرون سارع في الرد على هذه الاتهامات بأنها لا تفقه شيئاً في الملف الاقتصادي وإنها تنتقد برنامجه دون تقديم توضيحات أكثر حول كيفية تمويل مقترحاتها دون خفض الإنفاق العام. فبما يخص وظائف القطاع العام وعدت لوبن بزيادة فرص العمل ومحاربة البطالة كما انها تقترح دفع مبلغ ٨٠ يورو شهرياً لكل من يتقاضى راتباً يقل عن ١٥٠٠ يورو شهرياً. وهي تداعب أيضاً اليد العاملة بكونها ترغب بخفض سن التقاعد إلى ٦٠ عاماً بدلاً من ٦٢. أما تمويل هذه النفقات فهي تقترحها من خلال خفض المساعدات الاجتماعية المخصصة لغير الفرنسيين. التباين في البرنامجين، يبيّن أن هنالك هوةً كبيرةً بين المرشحين٬ فالخبير الاقتصادي في مؤسسة ناتيكسيس أي. أم. فيليب فيشتر يرى: "اننا أمام فلسفتين مختلفتين تماماً. من جهة هناك رغبة في الحصول على سبل للتأقلم مع عالم يتغير، ومن جهة أخرى ثمّة رغبة بالانعزال عن العالم".
استطلاعات الرأي التي أعقبت المناظرة بيّنت ارتفاع نسبة المصوتين لماكرون بنسبة ٣ بالمئة٬ خصوصاً عندما فنّد برنامجها الإقتصادي. فمن بين استطلاع أجرى على ١٣٦٠ من مشاهدي المناظرة التلفزيونية كانت النتيجة ٦٤ بالمئة لماكرون مقابل ٣٦ بالمئة لمارين لوبن.
يتمتع ماكرون بدعم أغلب رجال الطبقة السياسية المتنفذة في البلاد٬ فمن جانب أحزاب اليمين حصل على دعم مرشح اليمين فرانسوا فيون بعد انتهاء انتخابات الدور الأول إذ أعلن في خطاب لم يكن إلا توصية لمناصريه برصّ الصفوف وراء المرشح المستقل إيمانويل ماكرون: "سأصوت في الدور الثاني من الانتخابات لإمانويل ماكرون وأدعوكم أنتم أيضاً للتصويت ضد اليمين المتطرف".
رئيس الجمهورية فرانسوا هولاند هو الآخر لم يتردد عن دعوة المواطنين الفرنسيين إلى التصويت لصالح المستقل ووزيره السابق ماكرون. فقد أكد لقناة BFM TV الإخبارية بأن: "المواجهة هي بين مرشح فرنسا ومرشح التطرف والرجعية" محذراً من مخاطر وصول مارين لوبن إلى الأليزيه. لكن النتيجة تبقى غير محسومة فالكثير من مناصري الحزب الاشتراكي لا يرون في التصويت للمصرفي إيمانويل ماكرون تجسيداً لطموحهم لأنه سبق وأن وجه طعنة للحزب الاشتراكي عندما انقلب على الحزب ليختط لنفسه طريقاً موازياً بحركة إلى الأمام. أما مارين لوبن زعيمة الجبهة الوطنية فإنها تعتبر نفسها المرشح الأوفر حظاً والمناسب لمنصب الرئاسة في ظل الظروف الأمنية الاستثنائية التي تمر بها فرنسا منذ أكثر من عام.. فضحية اعتداء الشانزليزيه في نيسان الماضي، هو الضحية الـ٢٣٩ منذ نشوب موجة الاعتداءات الإرهابية في مطلع عام ٢٠١٥.
فهي تعتمد على شريحة واسعة من الفرنسيين الذين يرغبون بعودة الهوية الفرنسية إلى سابق عهدها ويرون في المرشحة لوبن تجسيدا لطموحهم. أما الطبقة السياسية الفرنسية، فإنها ترى في الهوية الفرنسية هوية أوروبية أولاً، وتستمد أهميتها بكونها مكوناً أساسياً من العائلة الأوروبية وليست هوية قطرية معزولة.