تظاهرة معرض الكتاب هذا العام في أبو ظبي كبيرة الأهمية، نظراً لسعة المساحة، ووفرة الضيوف الأجانب وكثرة المثقفين العرب. هنا انطباعات عن أروقة المعرض.
قررتُ منذ بعض الوقت أن لا مشاكل ولا توتّر شخصيّاً في علاقاتي الثقافية، قلْ كلمتكَ وأمشِ، لذا قدمتُ اعتذاراً، في معرض أبو ظبي للكتاب هذا العام 2017، لجميع من استطعتُ أن أتوصّل إليه، رغم أن بعضهم هو من يسيء إليك. في بعض حالات إصلاح ذات البين دون جدوى: هناك شعور طاغ عند بعضهم أن الاستفزاز الشخصيّ، أحياناً المجانيّ، وسوء الفهم المقصود تقصًّداً هو المشروع الأول والأصليّ للمثقف.
"التلقائية" لا مكان لها، في أوساط بعض أقراننا، الشعراء أعني ومن جاورهم، وهو ما يعقّد الحياة والسلوك الاجتماعيّ: لأنّ مثقفاً في العالم العربيّ يتوجب أن يحتفظ، غالباً، بصورة ثابتة معروفة، صارمة أو استفزازية، من النادر أن تكون التلقائية والطرفة عنصراً من عناصرها. لذا لا أرغب بالتعرُّف شخصياً على ناشري كتبي في الشعر وغيره: من أجل بقاء الصورة في أعلى درجات نقاوتها الافتراضية. من جهة أخرى، يقع تقديمي في المناسبات الثقافية شاعراً على خَفَر وبتردد، لأن الدكتور والباحث والجامعيّ والمحقق التراثيّ أكثر أهمية عربياً كما يبدو. لا أتحدث عن الجهل بأعمالي الشعرية، بسبب الظرف وبسببي المباشر. خفر وتردد لا يزعجني كثيراً، سوى إلصاق تهمة الدكتور بي.
ناشران مثقفان تتوقف أمامهما لأن من النادر أن تلتقي بناشر مثقف: خالد الناصري (دار المتوسط) الذي يخوض مغامرة معرفية ووجودية، وبحبّ عذريّ للكتاب الورقيّ. وصلتْ بعض كتبه متأخرة للمعرض فاحتضنها كما يُحتضن الطفل، وفي المساء جاء بها إلى مشرب الفندق ونشرها على الطاولة كأنه يتمعن بجمالياتها.ثم أيمن الغزالي (دار نينوى للنشر) الذي يبدو اليوم خارجاً من توازن جديد بين الثقافة والسوق، وبانتباه أكبر لمشاريع مؤلفيه الكتابية وحقوقهم.
في أبو ظبي، خاض معي بعض الأدباء والشعراء السوريين والفلسطيين - السوريين (منهم سامر أبو هواش وخالد الناصريّ ومازن معروف) سجالاً بشأن موقفي من المأساة السورية. حوار سويّ هادئ غالباً، وأحياناً ببعض التوتر والاستفزاز. موقفي لا يحتمل الإعادة والاستعادة: لقد أكّدت عشرات المرات حق الشعب السوريّ بالحرية والديمقراطية والانعتاق المطلق من كل نظام لا يرغب به ويقمعه (بجميع الوسائل التي يراها مناسبة على الإطلاق). تحفّظي كان وما زال يتعلق بالسلفيّات والإرهاب وأكاذيب الإعلام وحرف مسار الناس المشروع عن سراطه.لا بد أنني واضح إلى أقصى درجات الوضوح هذه المرة، وأعرف أن بعضهم لا يقرأ، لأنه يريدنا أن نتطابق مع سردياته حصراً، وهذا غير ممكن أبداً.
أكثر مرة تعرف فيها أن عنوان مجلة (الحوزة الشعرية) عند مثقفين وشعراء عرب، أُسَمّي منهم مصريين وخليجيين وعراقيين وسوريين وسعوديين ألتقيتهم في معرض أبو ظبي، أنما هو عنوان طرفويّ ساخر، لهذا الزمان المؤلم. وأنها بسبب تلميحات هذا العنوان المتشعّبة مكرّسة للشعر وحده بعيداً عن أية حوزة أخرى. هذا مدعاة للسرور.
نوري الجراح صديقي، منذ القرن التاسع عشر، وقد مررنا بالمُرّة والحَلْوَى (وهذه ليست هفوة طباعية)، ولم تنفع ظروف بلداننا التي شقّت المثقفين العرب شقّاً، ولا أقاويل هذا وذاك، عني وعنه بالتناوُب في وسط مريب، بطمر برزخ المحبّة بيننا الذي تتصاعد هذه المحبة المعتقة زهرةً بعد زهرةٍ فيه. ولا خاصة بمحو التقدير المتبادل، وَفْق معرفةٍ دقيقة لإمكانات بعضنا الثقافية، واهتزازات قلوبنا التي لا يُدْرِكها الجاهلُ الغرّ.
صينيات ويابانيات يتحدثن العربية بطلاقة، ويساهمن في نقاشات المثقفين العرب. متى يا تُرى نَشْهد عربيات وعرباً يساهمون في نقاشات المثقفين الصينيين واليابانيين بطلاقةٍ؟