في واحدة من محاولات أسترداد صورة البصرة المخربة، على يد العصابات، في المدينة المنتهكة فضائياً (نسبة الى الفضائيات) نجد، هنالك من يغامر، ومن يجرؤ على فعل إعادة فعل الجمال، عبر الثقافة، طبعاً، فيقيم احتفالية هنا، وينشئ جهداً معرفيا هناك، ولا نعدم من رؤية من يحضر أمسية للشعر، أو معرضا للفن أو مهرجانا للسينما. هي محاولات يائسة بكل تأكيد، إن قيست بمقياس الماضي، وبلا معنى أيضاً، لكنها، إن قيست بمقياس الحاضر عدّت مغامرة، تحسب لصالح القائمين عليها، وما أقامته رابطة لوتس الثقافية النسوية بالتعاون مع أبرشية البصرة والجنوب الكلدانية قبل يومين يجعلنا أميل الى ترجيح القياس الثاني.يجعلنا على يقين بأن المدينة ما زالت على قيد الحياة ولن تموت.
وهنا، كان بودي أن أتحدث عن الشعر، وعن ما قرأته الشاعرة أنغام الزبيدي، وعن الأمسية المخصصة للإحتفاء بديوانها( إمراة ترفض التلاشي) وعن معرض شقيقها النحات والرسام محمد الزبيدي، وعن المقدمة النقدية الاحتفائية التي قدمتها الشاعرة منتهى عمران، وعن ترجمة بعض القصائد الذي قامت بها المترجمة سميرة البغدادي وعن القراءة الجميلة، عن الصوت العذب، صوت الدكتورة ثورة يوسف، الذي راح يتصادى في قاعة كنيسة مار فرام بالعشار، منشدا الجمال حيث كان، عن الجمهور الذي تمايل طرباً مع صوت وعود الموسيقي عادل الجاف. كل شيء من هذا، يمثل دعوة خالصة للتأمل والكتابة وإبداء الرأي في مدينة تحتضر اجتماعياً وسياسيا وأمنيا واقتصاديا لكنني سأصمت.
لكنني سأصمت، ولن أتكلم بحرف واحد، فكل كلام في هذه وتلك محض عدم، إنما سأصغي لنداء أنفاس الذين أجتمعوا في صالة كنيسة مار فرام بالعشار، وقد جاءوا من وسط وأطراف المدينة، لبوا نداء الشعر والفن والمحبة والألفة والصداقة والبحث عن قيم الجمال واللطف والصفح والتسامح، وجاءوا، جلسوا على المقاعد الخشب يستمعون الشعر وهو يقلب أوراق الجسد والعشق، وهو يبحث عن منفذ يعبر فيه عن يأسه وشجنه وصدقة ووفائه، ينعمون النظر في اللوحة وما تخطه الفرشاة من غربات وحنين ومتاهات... ومثل من أفاق من طعنة خاطئة، أفقت، ورحت أبحث في موضع الطعنة عن سكين متوهَمةٍ، عن نصل لم يتمكن من بلوغ نقطة الأمل في قلبي الحالم، رحت أصفقُ للشعر واللوحة والقطعة الموسيقية، للنساء حاسرات وغير حاسرات، للجسد وقد لبى رغباته او لم يلبن للضوء الذي ظل ينهمر على صورة السيدة العذراء وابنها السيد الجميل، القائمة في الفسحة الأولى عن مدخل الكنيسة.
لم يبق من مسيحيي البصرة إلا القليل، ولم يبق من عازفي الكمنجات، الذين حاولوا أن يكملوا معنا قداس المدينة الأخير، في جوقة عازفي ليلة الميلاد، إلا القليل أيضاً، ومثلهم غادر من الطبالين والخشابة، السمر والبيض، ومن بوابة الخوف والهلع والموت أيضاً، غادر الميسورون ومتذوقو الفن والليل الطويل والنخل والأثل وبساتين البرجسية، من أهل السنّة والجماعة، في الزبير وابي الخصيب ، ومثلهم من غادر من كان من الصابئة والبهائية والاخبارية والاحسائية، وغادر غارسو النخل والفاكهة وزارعو البامياء واللوبياء والعنب والتوت والباذنجان، من الشيعة والسنّة، من أهل ابي الخصيب والفاو وشط العرب، كلهم غادروا،غادروا، مثلما غادر اليهود من قبلهم، وغادر كل من كان محباً للشعر والموسيقى والحياة خارج التشدد والزيف، من الزبيريين والخصيبيين والفاويين، لقد غادروا جميعاً،غادروا. كلهم يقول: هذه المدينة لم تعد لي.
غادروا.. لأن المدينة لم تعد لهم
[post-views]
نشر في: 13 مايو, 2017: 09:01 م