(1-5)
أنها لمفارقة أن أقف أمامكم – في هوهينأمسين - أنا المنفي الرافض للحرب، القادم من بلد دمرته الحروب، أنا المنفي الذي أدخلوه الحبس للطرد في المانيا أيضاً بعد أن رفضوا لجوءه ثلاث مرات، أنا المنفي هذا الذي كان يرى مهزلة طرده، ليس لأنه في حينه كان يواصل في جامعة هامبورغ دراسته للأدب الألماني التي سبق وأن بدأها في جامعة بغداد، بل أكثر لأنه كان يعرف أن بلاده والبلاد التي دخلت الحرب معها، إيران، كانا يتزودان بسلاح ألماني: كان العراق يستورد من المانيا الغربية بقايا الغاز المتبقي من الحرب العالمية الأولى، فيما كانت إيران تستورد من المانيا الشرقية أقنعة الوقاية من الغاز، أمر مفهوم، لا حروب أو قتل ودمار، لا جوع وتشرد أو حصار بدون تجارة سلاح، نعم، أنها لمفارقة أن أقف أمامكم، أنا المنفي القادم من بلاد كان اسمها الجمهورية العراقية، بلاد اندثرت حقيقة لم يبق من ماضيها غير قصص وحكايات وقرابة خمسة ملايين مشرد متوزعين على كل جهات الأرض، مسلمون ومسيحيون، صابئة مندائيون وايزيديون ويهود، كل ما يخطر على بال من قوميات وأعراق، عرب وأكراد وأرمن وشبك وغجر وتركمان، رطانات لسان ولغات، أنها لمفارقة بالفعل أن المنفي هذا يحط قدميه أخيراً وأين؟ في أراض مدينة ليست هي مدينة حدودية وحسب، تُذكره بالمدينة التي ترعرع فيها في جنوب شرق العراق، العمارة، بل أنها المدينة أيضاً التي عُثر في مكتبتها في القرن الثامن عشر على مخطوطتين من أهم ثلاث مخطوطات لنشيد نبيلونغين، المخطوطات التي توثق اندثار مملكة وما حدث آنذاك من حروب وقتل ودمار وهجرات.
عندما هربت إلى منفاي قبل 35 عاماً تقريباً، حملت معي 300 دولار وثلاثة كتب: "قوت الأرض" لأندريه جيد، "رمبو وزمن القتلة" لهنري ميلر و"مئة عام من العزلة"، لغابريل غارسيا ماركيز، كانت تلك هي كل غنيمتي من بلاد كانت غنية بكل شيء وأنتهت إلى الخراب، لم أعرف أن هذه الغنيمة بالذات وعلى شحتها، هي كنز لا يعوض بثروة أو مال، أية غنيمة دسمة: ثلاث كتبة لكتّاب من قوميات مختلفة، من ثلاث لغات: فرنسي، وأميركي وكولومبي، توحدوا في اللغة العربية التي تُرجمت أعمالهم إليها، ثلاثة، أولهم كان منفياً في وطنه، عاش غريباً عن محيطه وكان عليه طيلة حياته ضد ما ألحق به من تهم وتشنيع، الثاني اختار المنفى بإرادته، ذهب إلى باريس الثلاثينات، ليكون واحداً من جماعة الـ لوست جينيريشون الجيل المفقود: أرنست همنغواي وسكوت فيتزجرالد، ترومان كابوتي ودجونا بارنت، كل الكتّاب الأميركان أولئك الذين اختاروا العيش في باريس بصفتها مكة الثقافة والفنون. أما الثالث غابريل غارسيا ماركيز، الكولومبي الذي سيصبح أسطورة أدبية في العالم، فقد كان عليه أن يهرب إلى المنفى، كانت جزمات العسكر تدوس على صدور الناس في أميركا اللاتينية آنذاك، ماركيز هو الآخر لم يكن وحده الأميركي اللاتيني الذي التحق بالمنفى، كان معه عدد كبير من زملائه، بعضهم بعمره تقريباً ماريو بيرغاس يوسا، خوليو كورتازار، وبعضهم سبقوه في العيش في باريس، ميغيل أنخيل أستورياس، ثيسار باييخو، بابلو نيرودا وأكتافيو باث، أغلب أولئك والروائيين منهم سيُطلق عليهم لاحقاً جيل الـ بووم، كل أولئك الذين لايهم إلى أي بلاد لجأوا، لكنهم ظلوا مصرّين على الكتابة بلغتهم الأم.
أية مفارقة: أغلب الاعمال الأدبية العظيمة كُتبت بلغتها الأصلية في المنفى؟ يمكنني عمل قائمة طويلة هنا: الكوميديا الالهية لدانتي، كل مسرحيات جيورج بوشنر، يوليسيس لجيمس جويس، مائة عام من العزلة لماركيز، ترانسيت لآنا سيغر، لمجرد ذكر بعض الأمثلة.
الكلمة التي ألقيت في يوم الخميس الماضي 11 آيار بمناسبة افتتاح مهرجان امسيانا الثقافي الذي يُقام سنوياً في مدينة هوينأمس النمساوية
بابل في كل مكان
[post-views]
نشر في: 16 مايو, 2017: 09:01 م