د محمد حسن تجربة الألم والملليمتلك صلاح عبد الصبور، الشاعر المصري الكبير، الراحل،بجانب المقومات الشعرية، عدة مرجعيات في تأسيس هرمه الشعري، بدءا من التراث الأدبي والديني إلى التأثر بشعراء الحداثة الأوروبيين. ومن الذين لم يخف إعجابه بهم، ويلتصق بهم في حميمية ” لوركا “، و ” بودلير “: في قصيدة بهذا العنوان، يخاطب بها ” بودلير “:rnأنت لما عشقت الرحيل
لم تجد موطنايا حبيب الفضاء الذي لم تجسه قدميا عشيق البحار وخدن القمميا أسير الفؤاد الملولوغريب المنىيا صديقي أنا في هذه الأسطر، ذات الكثافة الشعرية، يلمح صلاح عبد الصبور، إلى نوع الرحيل الرمزي الذي مارسه ” بودلير ” بدلا من إخفاقه أو بالأحرى، عدم امتثاله لزوج أمه الذي سفره إلى الهند، عبر إحدى السفن، ثم قفل راجعا أثناء توقف السفينة في جزيرة ” لاريونيون “. فالفضاءات التي يحلم بها ” بودلير “، لا تخضع للأبعاد الثلاثة التي تحد بها الأمكنة، بطريقة كلاسيكية، فالفضاء الذي لم تجسه قدم، هي تلك الأمكنة التي يصورها خياله: بحاره هو، وسماؤه، ولا زورده وخفايا موجه، في سكون الليل، في تباشير الصباح، وفي شفق الأصيل، في تناسق الصور وتقاطعها، في رمزية الأشياء، في تجسيد إحساسات الملل، والسأم، والضجر والكآبة: هذه المعاني المترادفة والمتقاربة، هي التي سوف تجعل القيمة الأدبية لقصائد النثر البودليرية في Le Spleen de Paris .يفتتح ” بودلير ” ” أزهار شره ” بقصيدة ” إلى القارئ ” ونقطف منها ” بيت القصيد “، من ترجمتنا للقصيدة:” العنف، والسم، والخنجر، والحريق، إذا هي،مازالت لم تنمق برسوماتها السارة،اللوحة التطريزية المبتذلة لمصائرنا المرثى لها،فلأن نفسنا، واحسرتاه ! ليست جريئة بما فيه الكفاية.لكن، من بين الذئاب، والفهود، وكلاب الصيد،والقرود، والعقارب، والنسور، والحياتوالأغوال الزاعقة، العاوية، المدمدمة،في معرض وحوش رذائلنا الكريه.ليس أبشع منه وأشرس، ولا أكثر دناسةفهو؛ وإن لم يقم لا بحركة هامة، ولم يصرخ صرخة عظيمة،سوف يجعل من الأرض حطاماوسوف يبتلع العالم في تثاؤب؛إنه الملل ! – العين محملة بدمع غير إرادي،يحلم بالثروات مدخنا ” الهوكا “،تعرفه أيها القارئ، يا هذا المخيف المرهف،-أيها القارئ المنافق – يا شبيهي – يا أخي ”(بودليز) – ” أزهار الشر ”التماهي بين ” الشاعر ” و “القارئ “، هو قوام هذا التواصل بين المبدع والملتقي، وضمنه لا يصعب تحديد علاقة الطرفين معا في خضم ” الملل “، ملل الإنسان الحالم، المشتاق إلى مغامرات الثروة، حبيس دمع فرحته. ” بودلير ” كان يحلم بالثروة.أستغفر الله ! أي ثروة ؟ ثروة خزائن الهند والسند، وفارس ؟ ثروة ممالك الأفيون والأثير ؟كلا ! … بل تركة أبيه من الثروة.ارتبط الشاعر بـ ” جان دوفال”؛ وهي فنانة خلاسية. وبالرغم من الشقاقات المتكررة والعديد من المغامرات، فقد ظل حياته، عشيقا وسندا لها، بجانب حبه الانغماس في حياة التأنق والشياكة، مخلفا وراءه ثقلا من الديون.ومن ثم، تذرعت أمه وزوجها الفريق ” أوبيك ” بغرائبه الشاذة، فحصلا من المحكمة سنة 1844 على إخضاعه إلى مجلس قضائي. انظر (مقدمة ” أزهار الشر “) بروفرانس ماكسي ليفر” لبودلير ” إذن، عالمه الخاص، إن لم نقل عوالمه، وإن كان يقول: ” أعرف ما كتبه، ولا أحكي إلا ما رايته “.لم يخف صلاح عبد الصبور إعجابه بـ ” بودلير ” – صنوه – فعبقريته الفطرية، كرجل خلق شاعرا، إزاء العالم الخارجي، تحتم عليه تنظيم هذا الكون المنثور – أو ربما هكذا يبدو أمام خيال الشعراء – فنيا وإعادة صياغته، للتفريق بين المبتذل من الأشياء المألوفة، وليتمتع بصفة شعرية أخرى، يميزها الفرق بين “الكون الشعري” صنيعة الإنسان وبين الطبيعة بكل حدافيرها المعروفة للعيان.ومن هنا، يحق لبودلير أن ” يعرف ما يكتب، ولا يحكي إلا ما رأى”:شاعر أنت والكون نثروالنفاق ارتدى أجنحةوتزيا بزي ملاك جميلوالطريق طويلوالتغني اجتراء على كشف سرفي عيون النساء طفت، لما تجدفي السماء التي أطرقت معجبةفوق بحر سجا كالزجاج الرهيفلم تجد، لم تجدفي الدخان الذي ينعقدثم يهوي أمام العيون كثوب شفيفلم تجد، لم تجدفعشقت الرحيلفي بحار المنىيا فؤادا ملوليا صديقي أناصلاح عبد الصبور ” أحلام الفارس القديم ” ص.ص 231، 232.الشاعر صلاح عبد الصبور يكاد يعطينا ” أوتوبيوغرافيا ” شعرية عن ” ش. بودلير” صاحب ” الغرفة المزدوجة ” والجنان الاصطناعية &ld
صلاح عبد الصبور وبودلير
نشر في: 19 فبراير, 2010: 06:21 م