اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > أجمل إغفاءة في تاريخ الفن

أجمل إغفاءة في تاريخ الفن

نشر في: 19 مايو, 2017: 09:01 م

 

أمسكت بخارطة لندن المطوية على هيئة كتيب صغير، وخرجت من البيت الصغير الذي إستأجرته لمدة أسبوعين في العاصمة البريطانية. قطعتُ مئة متر تقريباً لتواجهني حديقة (هايد بارك) الممتدة وسط المدينة مثل بساط أخضر، تلتمع عليه بقع ضوء الشمس التي تتسلل من خلال الغيوم الصغيرة المنتشرة في سماء المدينة. كانت المسافة التي تفصلني عن بيت الرسام فريدريك لايتون (١٨٣٠-١٨٩٦) الذي أرمي الذهاب اليه، هي ربع ساعة بالباص، وساعة كاملة مشياً على الأقدام، فقررت أن أقطع المسافة ماشياً، لأتمتع أكثر بمعالم المدينة. وهكذا إخترقت البارك من احد ابوابه الجانبية لأقطعه عرضاً، حتى وجدت نفسي بمحاذاة حديقة صغيرة مُرَتَبَة مثل حدائق الحكايات والقصص، هي حديقة ديانا التي أُنشئت داخل البارك تكريماً لها، لأخرج من الجانب الجنوبي للبارك، ثم انعطف بعدها نحو اليسار وأنا أفكر باللوحات الجميلة التي سأشاهدها، مشيت قليلاً حتى بانت على جهة اليمين من الشارع أكاديمية لندن للتصميم الداخلي ببنائها الضخم والجميل، ونوافذها الزجاجية المستطيلة التي غطت كل الواجهة، لحظتها دفعني فضولي كي أغيّر خطتي وأذهب باتجاه الأكاديمية، لكني أجَّلْتُ ذلك وأكملت طريقي نحو بيت لايتون. وبعد نصف ساعة من مغادرتي للبارك ظهر على جهة اليسار شارع هولندا، حيث يقع البيت (المتحف) الذي أقصده. وقفت أمام البيت الذي يشبه قصراً وأنا أتأملُ واجهته المبنية بالطوب الأحمر، وإسترجعت ماعرفته وقرأته عنه. نَظَرْتُ الى المدرج أو السُلَّم الخارجي الذي يؤدي الى الداخل واسْتَعِدتُ في ذهني كيف أن قنابل النازية قد دمرته سنة ١٩٤٠، وتساءلت قبل أن أدخل لأتمتع بهذا المكان الفريد: ان كان هناك شيئاً لا يمكن للحرب ان تدمره !
كانت أرضيات وسقوف وجدران قاعات الطابق الأرضي مغطاة كلها بالفسيفساء العربية، حيث توزعت الأشكال والألوان بطريقة مدهشة تخللتها الكثير من الكتابات العربية، وفِي الوسط كانت هناك نافورة ماء، أَحْيَت المكان وأعطت إحساساً بأن الرسام مازال يعيش في بيته وسيعود بعد قليل ليعاود الرسم مع أحد موديلاته الجميلة. وكان لايتون قد جلب كل هذه التفاصيل والتحف من القاهرة ودمشق حين زارها بصحبة صديق له، كان يعمل وقتها سفيراً لبريطانيا في دمشق. مثلما قضى هذا الفنان وقتاً في الجزائر. أجتازُ أعمدة الرخام المنتشرة في المكان لأصعد درجات السلم القديم، وأنا أتحسس بيدي الجدار المكسي بالموزائيك الأزرق المائل للتركواز، في طريقي الى القاعات الأخرى، حيث كانت لوحاته الرائعة ولوحات الكثير من الفنانين المعاصرين له مثل ميليه وألما تادما وواتر هاوس وغيرهم، كذلك كانت لوحاته غير المنتهية معروضة على حوامل كبيرة جداً، وكذلك تخطيطاته ذات التقنية المدهشة. وفِي أحد الجوانب تتوزع كتبه العديدة التي تعكس ثقافة هذا الفنان واطلاعه الواسع.
لوحاته يغلب عليها طابع الميثولوجيا القديمة، وتقنيتها تقترب كثيراً من جماعة ماقبل الروفائيلية، ومن أعماله الشهيرة، درس الموسيقى، حديقة بيريدوس، حورية البحر، موناليزا الجنوب، لكن تبقى لوحة (يولي المضيئة) أجمل وأعظم أعماله، وفيها تغفو يولي بطريقة استثنائية بثوبها البرتقالي المشتعل بالضوء قرب نافذة مفتوحة تطل على البحر، ويقول مؤرخو فنه بأن هذه الفتاة كانت موديله المفضل، وبعد الإنتهاء من رسمها في احدى المرات، أخذت استراحة وغفت على الأريكة التي لا تتسع للنوم أصلاً، فبهرته حركتها وعفوية إغفاءتها، فرسمها في الحال، وكانت هذه اللوحة التاريخية التي أصبحت إحدى أيقونات القرن التاسع عشر.
خرجت من هذا المتحف الجميل بعد أن اقتنيت كتاباً عن الفنان، لكني بدلاً من أن أعود أدراجي الى الشارع، إستدرت وإلتَفَّيتُ حول البيت لأصل الى الحديقة الخلفية التي هي جزء مهم من المكان، عندها تَطَلَّعتُ الى النافذة الزجاجية العظيمة التي يطل منها المرسم حيث الضوء يملأ المكان. أُثَبِّتُ نظري لحظات بإتجاه البلكون الأبيض المغطى بسقف زجاجي، وأتخيل الرسام يجلس هناك وهو يداعب يولي الجميلة، ثم يتوقف لحظة ويلتفت نحوي بنظرة فيها الكثير من الغياب. أكمل بعدها طريقي الى الخارج وأنا أحيي شابين ملتحين تدل هيئتهما على انهما فنانان، كانا يجلسان على احدى الأرائك القديمة، وهما يتناولان بعض الطعام والشراب في الحديقة الخلفية للرسام.

 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram