من النظرة الأولى لرسومات (صور) شيرين البارودي المتأخرة، تبدو كأنها تربة ثقيلة مشققة. ربما بفعل الجفاف، ربما بفعل التعرية، ربما لتوافق أو تصادم جغرافيا الحدود، ربما لا هذا ولا ذاك. فالعمل الفني الحفري غالباً ما يخفي أكثر مما يعلن. لكن ما يج
من النظرة الأولى لرسومات (صور)
شيرين البارودي المتأخرة، تبدو كأنها تربة ثقيلة مشققة.
ربما بفعل الجفاف، ربما بفعل التعرية، ربما لتوافق أو تصادم جغرافيا الحدود، ربما لا هذا ولا ذاك.
فالعمل الفني الحفري غالباً ما يخفي أكثر مما يعلن.
لكن ما يجعلها صوراً تحمل صفات غيريتها هو هذه التشققات البيض التي تخترق جسد اللوحة المرسومة لتحولها أحياناً لمجرد جزر منفصلة أو متجاورة أو ملتحمة.
مع ذلك فالنظرة الأولى للعمل الفني ربما تكون مخادعة أو مخاتلة. مع ذلك فأعتقد أن صور(لوحات) شيرين لا تبتعد عن هذه المقاصد، إلا لتصب في خانة أعمّ وأعمق، حيث الفكرة تأخذ بتلابيتها، مثلما تأخذنا بعيداً لنكتشف عوالم تندرس تحت ركام تضاريسها: خرائط (جيوأركيولوجة) تمسح الحدود الجغرافية والأثر الإنساني، مساحات ودلالات لا تنتهي عند حد.
شيرين ومن أجل تميزها، لا تحاول استنساخ الخرائط الأرضية (كما في كوكل) بحدود مدنها ومسارات سمائها وأرضها كفعل تلصيقي، كما في العديد من الاشتغالات التشكيلية المشابهة لفنانين تشكيليين آخرين، بل حاولت جهدها للحفر في عمق التربة وتضاريس سطحها بمقاربات تجريدية تظهر بقدر وتخفي بقدر من جلاء فكرتها. سلسلة رسومات متقاربة ومتفارقة التفاصيل طفيفاً تدعونا لمتابعة خارطة مسطحاتها الأرضية (لا خطوطها)، مخبوءاتها التي تعلن عن بعضها أحياناً، نثراً هنا أو هناك من المساحة المفتوحة على امتداد السطح الملون.
رغم رصانة ملونة هذه الأعمال الصورية، إلا أن ثمة هاجساً ينبئني بأنها تأسست على الكثير من نوايا اللعب الفني غير المقصود. ما أكد هاجسي هو اعتراف شيرين نفسها بأنها ومنذ عام (2009) لم تكن تعلم (بأنها خرائط فقط) بل كانت تحاول (حل مساحات السطح التصويري واللعب بالمساحات البيض فكان في بادئ الأمر الأبيض مجرد مساحات هندسية ثم تطور وأصبح على ما هو عليه الآن من اختزال). وانا في صغري، في ذلك الزمن الذي بات موغلاً في القدم، كنت العب بعجلة السايكل دافعاً إياها أمامي في منعرجات الأزقة الضيقة. مسارات لعب كشفت لي عن تضاريس أرضيات هذه الأزقة النظيفة والمتربة ومطباتها، خرائط واضحة المعالم لم أكن أدركها قبل ذلك. انا الآن أشعر بأن ثمة عجلة مزروعة في دماغ المبدع تقود خطواته ببصيرة أكثر فاعلية عبر مدارات كانت مختبئة عن مجال رؤيته الواقعية، بالوقت الذي كان فيه غافلاً عن مقاصدها. مدارات أوصلت شيرين الى نتائجها الأخيرة التي شذبها إدراكها العقلي كفكرة قابلة للاشتغال عليها وتطويرها بشكل مختلف عن نظرائها من الفنانين التشكيليين، رغم عدم نأيها عن جذرها الصوري الأول، سواء صور مسطحة أو أفلام فنية.
أن نفذت خرائطها (الصورية) أعمالاً مسندية. فهي لم تكتف بذلك مع اتقاد جذوة اللعب التي تلبستها سلاسل صور متعاقبة، حكايا تضمر اسراراً وجدانية رغم عناوينها. سلاسل تشكل افلامها الفيديوية (كما في فيلمها الفيديوي الفني ملامح) الذي بالرغم من اختلاف مضامينه، ولو إضماراً، إلا انه لا يبتعد عن صلب اشتغالاتها على الأثر الطوبوغرافي، بالرغم من تحوله لمنطقة الأثر الإنساني الذي يحاور خطوط الطول والعرض الافتراضية ومجال انفتاحها على التأويل، لا انغلاقها كأنماط شكلية فقط. في السرد يبدو أن ثمة إنحداراً في مياه النيل من الجنوب صعوداً بمرافقة سحنات وجوهها الأنثوية (الموحية لملامح الفنانة نفسها على ما يبدو). لكنها في العمق كالنيل في انحدار أو انجراف مياهه، صور تتوالى، ديالوك الروح والجسد. في محاولة لصياغة حدود تجاوزية أو تجاورية أخرى حيث مناجاة ارواح تسعى لاستعادة أو تأصيل إنسانيتها، لا انفصالها أو انفصامها. فيلمها الفيديوي(ملامح) هذا لا يتجاوز على ملامح بيئتها، بقدر ما يبرز الوجه الوجداني الخفي من ملامح أمنا الأرض(الأنثى) للعلن. لعب من نوع آخر. لكنه بالتأكيد لعب لذيذ يتعدى زمنه الصوري المتتابع، ليكمل لعبته الإيحائية الذهنية ووجدان المتلقي.
من مقالة لـ(ناجي النصاري*) يصف فيها طريقة علاج مصرية باستخدام نوع من السمك يذكر فيها(وفي النيل يوجد سمك الرعاش الذي يحتوي على بعض الشحنات الكهربائية.. للعلاج الطبيعي). فهل يعني اشتغال الفنانة على السمكة كمفردة حوارية أساسية في الفيديو الفني (ع الغدا) الذي صنعته عام(1916) نوعاً من المساج الإنساني. ربما هو كذلك. فالسمكة في بعض من دلالاتها هي أنثى. وما تحضيرها لوجبة الغداء إلا كونه فعلاً تواصلياً لشخص ثالث، ما بين الأنثى وزوجها ونظيرتها التي لا تتعدى ذاتها الخفية، أو انعكاساتها العاطفية الإيجابية والسلبية. مثلما هي دعوة للإغراء في نفس الوقت. لقد كان المزاج حاضراً حتى ولو لم يعلن عنه. وكما أعتقد.
بعد كل هذه الأمثلة الواضحة الدلالة، أعتقد أن هاجس اللعب يقطف ثماره في الاشتغالات الجديدة للفنانة الشابة شيرين بموازاة حدس الفكرة وطرق تنفيذها. إن بدت رسومها وملوناتها تعوم تتخلل مفرداتها جزر الأبيض واختراقاتها على امتداد صفحات مصوراتها الملونة ولتبقى تعوم في جزر أفكارها الإنسانية، منطلقة من ولع الاشتغال على مد جسور صورية تخبئ تحت سطوحها مفردات إنسانية طوبوغرافية لا ينضب معينها.
أخيراً فإن اشتغالات شيرين البارودي الجادة والمستمرة، صنعت صفة تفردها بين أقران جيلها من الفنانين التشكيليين المصرين. وهذه هي
دالتها.
(*)من مقالة لماجد الأنصاري، مجلة نصف الدنيا الألكترونية