مثلما فعلت فوضى مابعد الحداثة، أزاح طوفان الرواية الذي اجتاح مشهدنا الثقافي، كثيراً من منظومات القيم الثقافية والتقاليد المعنية بالكتب الجديدة الجديرة بالقراءة، فقد كان صدور مجموعة قصصية ملفتة أو رواية بارعة في العقود الماضية يشكل حدثاً ثقافياً تنشغل به الصفحات الثقافية والنقاد الجادون، لم يكن أحد من الكتاب يدفع المال مقابل نشر كتابه في المؤسسات العراقية والعربية (وعلى غير مايحصل الآن مع استثناء دور نشر مرموقة مثل مؤسسة المدى - كان الكاتب يتلقى مكافأة معقولة عن كتبه وكان مستوى الأعمال المنشورة لدى المؤسسات ودور النشر العربية مستوى ممتازاً بسبب خضوع الكتب لتقييم خبراء متخصصين وأساتذة ونقاد كبار تعتمدهم المؤسسات ودور النشر لإبداء الرأي في الروايات والقصص والترجمات التي يقدمها الكتاب، وينتظر الكاتب سنة أو أكثر ليتلقى خبر الموافقة على طبع كتابه مدعمة بآراء الخبراء وملاحظاتهم – ان كان ثمة ملاحظات لغوية أو اسلوبية - وعندما يصدر الكتاب، وهذا ماكان متبعاً في بعض دور النشر أنها تهدي نسخاً من كتبها الجديدة للمشرفين على الصفحات الثقافية والصفحات الأخيرة سواء كانت الكتب مؤلفة أم مترجمة، فتظهر في الصحافة أخبار متنوعة عن الإصدارات الجديدة من بينها العروض الصحفية والأخبار القصيرة وأعمدة مسؤولي الصفحات الثقافية وبعد انتشار الكتاب تظهر قراءات النقاد الجادة والدراسات الأكاديمية في المجلات المتخصصة.
بانتشار وسائل الاتصال والمواقع الالكترونية الأدبية التي يديرها الهواة و بعد ظهور صحف هزيلة تمولها الاحزاب ويعمل فيها محررون يفتقرون الى أي قدر من الخبرة الصحفية والثقافية، صرنا نرى فوضى عارمة؛ فتلك الصحف والمواقع تنشر كل شيء يردها لإدامة وجودها ولاتتحفظ على مستوى النصوص وقيمتها الابداعية وسلامتها اللغوية، فتوهم بعض من نشروا فيها أنهم أمسوا كتابّاً لامعين وبوسعهم تدوين أية حكاية وبعض من سيرتهم التي تخلو خبرات حياتية مركزة على أنها رواية، وأتاحت صفحات الفيس بوك لأمثال هؤلاء الطامحين للشهرة المتعجلة أن ينشروا أيّ شيء لتنهال عليهم وعليهن عبارات الاطراء المجانية والتعظيم المبالغ فيه من الاصدقاء والمعجبين، وأدخل في روعهم منتحلو صفة النقاد وبعض المتطفلين على الثقافة بأن شهرتهم في الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي كفيلة بتحقيق المجد وتوسيع مجال الشهرة بكتابة رواية وتقديمها لإحدى الجوائز، فتعاظم طوفان نشر الحكايات السطحية التي دونتها فتيات وفتيان لايتوفرون على خبرات حياتية وفكرية وابداعية وجرى الاحتفاء بهم وبهن في غياب التقاليد الثقافية الرصينة لأسباب عديدة منها الهوس بالشهرة ونشوة الحضور الاجتماعي تحت الأضواء، ومنها عدم خضوع كتب دور النشر التجارية لتقييم خبراء موثوقين تعتمدهم الدور لإبداء الرأي عن القيمة الادبية والفنية للكتب المقدمة لها.
هناك لواحق من السلوكيات المشينة ظهرت إثر هذا التسونامي المريع ، أبرزها قيام هواة الشهرة بدفع مبالغ لبعض الطارئين على الصحافة و مدّعي النقد ومراسلي الإذاعات والفضائيات لنشر أخبارهم وصورهم عند ظهور الكتاب ومتابعة حفلات التوقيع التي تقام في النوادي الاجتماعية وغيرها .
في خضم هذا التسونامي المبتذل وغياب التوازن وتصاعد الغثاء على قمة الموجة ضاعت وأهملت كثير من الأعمال الابداعية المميزة لكتاب شباب جديرين بالاحتفاء حادت عنهم أضواء الإعلام المرئي والمطبوع لأسباب تعود إلى اختلال المنظومات القيمية في المجتمع وبروز نزعات التنافس المقيت على الشهرة البائسة وتداعي القيم الثقافية وعدم الاعتداد بالمنتج الثقافي الجيد بسبب هيمنة سوق النشر المتربحة والثقافات الظلامية وقنوط النخب الثقافية الرصينة وانزوائها.
طوفان الرواية
[post-views]
نشر في: 20 مايو, 2017: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
ناظر لطيف
مقال رائع لكن في اعتقادي سوف لن تدوم هذه الفوضى الاعلامية. لانه لا يمكن ان يعلو الغث فوق السمين الا في حالات الانتقال والتي تعد نحن الان فيها. اذ ان تغير التقنية الاعلامية ودخول الانترنت ومنصات التواصل الاجتماعي وبشكل سريع ودون وجود قواعد تحكم المشهد ادى