يوسف محمد بناصرلقد ورثت الثقافة الإسلامية عن الثقافة العربية الجاهلية المنهج الشفاهي في أخذ المعارف، وعلق في أذهان الصحابة بعد ذلك أن العلم والمعرفة تنال بالحفظ كما حفظت المعلقات السبع وأساطير العرب وتاريخ الحروب، وكذلك كان الأمر مع كل ما أنتجه وجمعه العقل المسلم -خصوصا الصدر الأول- من علوم فقهية وحديثية على وجه الخصوص، وجاء منع النبي عليه واله الصلاة والسلام عن كتابة الرواية الحديثية؛"من كتب عني شيئا فليمحه" ليدعم استمرارية الثقافة الشفهية فصدقوا والتزموا -كما التزمت الأمة من بعدهم ردحا من الزمن
- بقوله:" إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحتسب"، فاستند العامة والخاصة على تلك الرواية للمنع، ثم جاء سلوك وعمل بعض الصحابة ليزكي بشكل أعمق تلك الأحاديث ليحولها المجتمع المسلم إلى ثقافة يومية ممارسة ومشرعنة تمتد زمانا، فكان ابن عباس رضي الله عنه يقول:" إنا لا نكتب العلم ولا نكتبه" وقوله:"إنما ضل من كان قبلكم بالكتب"، وكتب عمر بن الخطاب إلى الأمصار آمرا:"من كان عنده شيء فليمحه"،حتى أن ابن أبي موسى الأشعري قال:"كتبت عن أبي كتابا كبيرا فقال: ائتني بكتبك فأتيته بها فغسلها" وكثيرا ما كان يقول لمن يأخذ عنه:"العلم احفظوا عنا كما حفظنا"، وقيل شعرا في فضل الحفظ مالم يقل عن القراطيس وحفظها للعلم؛ قال الشاعر:استودع العلم قرطاسا فضيعتهو بئس مستودع العلم القراطيسإن الدارس لتاريخ الكتب في الثقافة والحضارة الإسلاميتين ليأخذه العجب مما قد يجد من اغتيالات وإعدامات ومصادرات للكتاب من طرف رجال السلطة أو العلم أنفسهم؛ وفي فترات متباعدة من التاريخ، مما هو راجع بالأساس إلى عدم تحول الوعي الإسلامي ليقبل بما جاء القران ليؤسس له من ثقافة حفظ الكتاب، ثم بالأساس تمجيد ثقافة اقرأ والقلم والمداد وثقافة:"فليكتب كاتب"..هذا في المقام الأول،أما ثانيا؛ فنجد أن هنالك أسباب متعددة أخرى واهية لتلك الحروب على الكتاب المدون، فبين التي دعت إليها الحمية السياسية والصراعات المذهبية والعقدية، وبين التي حدثت بسبب أزمة نفسية أو اجتماعية أو قبلية لشخص المدون...، فمثلا في سنة (311هـ)؛ حكى "ابن الجوزي" في حوادثها قائلا:"وفي نصف رمضان أحرق على باب العامة صورة ماني وأربعة أعدال(=حمل أربعة جمال)من كتب الزنادقة فسقط منها ذهب وفضة مما كان على المصاحف له قدر". ونقل "المقري" عن "المطمح" أن كتب "ابن مسرة" وهو العابد الزاهد، قد تتبعت بالحرق واتسع في استباحتها الخرق وغدت مهجورة على التالين محجورة..."، ونقل أيضا في كتابه:"نفح الطيب" أن أبا محمد ابن حزم قال عندما أحرق المعتضد بن عباد كتبه باشبيلية شعرا:"دعوني من إحراق رق وكاغدوقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري فان تحرقوا القرطاس لم تحرقوا الذيتضمنه القرطاس، بل هو في صدرييسير معي حيث استقلت ركائبي وينزل إن انزل ويدفن في قبري" .ويتحدث "الصفدي" في ترجمة الحاجب الملك المنصور الأندلسي أنه في سنة(366هـ) عمد أول تغلبه إلى خزائن "المستنصر" فابرز ما فيها من صنوف التواليف بمحضر خواصه العلماء وأمر بإفراد ما فيها من كتب الأوائل حاشى كتب الطب والحساب وأمر بإحراقها وطم بعضها وكانت كثيرة جدا فعل ذلك تحببا إلى العوام وتقبيحا لرأي المستنصر.."، وفي أحداث سنة(537 هـ)، حكى أبو محمد بن اسعد اليافعي قائلا:"وفيها توفي صاحب المغرب علي بن يوسف بن تاشفين...وهو الذي أمر بإحراق كتب الإمام حجة الاسلام أبي حامد الغزالي"،وروى "النويري" في ترجمة أبي يوسف يعقوب بن يوسف أمير الموحدين أنه أمر في سنة(583هـ) بإحراق كتب المذاهب بعد أن تجرد من الحديث والقرآن، فحرق كتاب المدونة وكتاب ابن يونس ونوادر ابن أبي زيد ومختصره، والتهذيب للبرادعي والواضحة..، وقصد من عمله ذاك أن يمحو مذهب مالك من بلاد المغرب، ويحمل الناس على الظاهر من الكتاب والسنة"، ويذكر زين الدين عمر بن المظفر بن الوردي في كتابه تتمة المختصر من أخبار البشر انه في سنة (744هـ):" فيها مزقنا كتاب فصوص الحكم(لابن عربي) بالمدرسة العصرونية بحلب،عقب الدرس وغسلناه، وهو من تصانيف ابن عربي تنبيها على تحريم قنيته ومطالعته..".كما تحدث المؤرخون عن بعض المشايخ الذين كتبوا وألفوا الكتب الكثيرة وفي مختلف الفنون فلما ضاقت بهم ضائقة قاموا بإحراقها أو دفنها، ومنهم من قام بغسلها ومحوها وتخريقها بأنفسهم أو بأمر منهم، فالإمام سعيد بن جبير(ت 95هـ)روى "الدينوري" القاضي المالكي في كتاب المجالسة": قال:"أن امراة سعدية قالت: سمعت سعيد بن جبير حين جيء به الى الحجاج دعا رجلا،فقال:"اذهب فاحرق كتبي"، والثوري فيما حكاه الحارثي عنه قائلا:"دفن سفيان كتبه فكنت أعينه عليها فدفن منها كذا وكذا قمطرة(=ما تصان فيه الكتب)، إلى صدري فقلت: يا أبا عبد الله:"وفي الركاز الخمس"فقال:خذ ما شئت.فعزلت منها شيئا.كان يحدثني منه"، وشيخ المحدثين شعبة بن الحجاج حكى عنه ابنه قائلا:"أوصى أبي:إذا مات أن أغسل كتبه فغسلتها"،وأبو عمرو الكرخي الذي روى الحديث عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وغيرهم من الصحابة، فقد محا كتبه عند موته، وعندما سئل قال:&
لحظات حرجة في تاريخ المعرفة والعقل الإسلاميين
نشر في: 20 فبراير, 2010: 04:35 م