TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > أنا المواطن من بابل

أنا المواطن من بابل

نشر في: 23 مايو, 2017: 09:01 م

(2-5)
"سيفيس رومانوس سوم"، "أنا مواطن روميّ"، يستشهد الارجنتيني، لكن المواطن العالمي أيضاً، لويس خورخة بورخيس في أحد حواراته، بتلك الجملة التي أراد المرء عن طريقها آنذاك في كل أطراف الامبراطورية الرومانية التأكيد على قانون المواطنة لمدينة روما، الذي يضمن له امتيازاته القانونية (حقوقه بالمفاضلة)، ثم يعلق بورخيس مباشرة، "نحن جميعاً بهذا المعنى طبعاً؛ نحن فقط ولدنا في المنفى، بعيداً تقريباً إلى جانب"، وأنا اقول، "أنا مواطن بابلي"، وفي النهاية كلنا وُلدنا في المنفى، بعضنا بعيداً عن بابل، وبعضنا الآخر بمحاذاته، ووحده تذكر بابل وبرجها الذي أُريد له أن يرتفع إلى تخوم السماء، هو تذكر لنفي قادم لا محال، ومن يصوّب نظرته تجاه الفضاء يبتعد عما حواليه.
الولادة في النفي بعيداً عن روما كما ذكر بورخيس، أو بعيداً عن بابل كما روته لنا القصص والأساطير القادمة من بلاد وادي النهرين، هي في الحقيقة امتياز كبير، رحمة إذا صح التعبير، على عكس ما كانت جلبته لنا الإقامة الدائمة في مكان واحد وحسب، ذلك ما تقوله لنا حكاية برج بابل.
وحسب القصة التي يرويها سفر التكوين (11: من 1 إلى 9) والتي تناقلتها الأقوام بكل طوائفها وأديانها ومذاهبها حتّى قبل تدوينها في العهد القديم، شرع نسل نوح بعد نهاية الطوفان ومغادرتهم السفينة في بناء برج بابل في سهل شنعار، بغية أن يجمعهم مكان واحد من الأرض فلا يتبددون على وجه البسيطة الواسعة، وكان في قصدهم جعل العالم كله مملكة واحدة عاصمتها هذا المكان الذي اختاروه في شنعار وسمّي بابل. ولكي يقيموا لأنفسهم اسماً ومجداً دلالة على كبريائهم وتشامخ نفوسهم، دار في خلد بنّائيه أن يوصلوه إلى السماء، لكن الإله السرمدي لم يكن في قصده تجمّع الناس بعد الطوفان بل انتشارهم لتعمير الأرض، وألا يذعنوا إلى الإقامة ويلجأوا إلى كبريائهم في تحدّي الرب، كان لابد أن يتوقفوا عن بناء البرج، فبلبل الإله ألسنتهم وشتّتهم في مغارب الأرض ومشارقها، وتفرقوا فعمّروا الأرض، وبسبب هذا التشتت والطقس والتربة واختلاف طرق المعيشة، نشأت أجناس الناس وتكوّنت لغاتهم المختلفة.
بهذا المغزى، برج بابل هو الوهم الأول الذي اخترعته البشرية لنفسها، إنجاز مملكة واحدة خاصة بهم، وهو للأسف ما يزال قائماً حتى اليوم، رغم أن زماننا الذي يُطلق عليه زوراً قرية عالمية، هو أكثر العصور التي مرت على التاريخ الذي لا يتقبل فيه نشوء هذا النمط من الأوهام، كأن البشرية معمل للنسيان، لا تريد تذكر بابل وتعلم الدرس، ما تزال تنجز أوهاماً جديدةً بدون توقف، كما هو وهم الأوطان الأم، القوميات الخالصة، الثقافة الخاصة، الجوهر القومي وغيرها من الأوهام، والتي تُسوق بصفتها مُثلاً عليا، حيث يصل الأمر بالبعض وفي كل أرجاء العالم بالاعتقاد، بأن هناك فضيلة خاصة تكمن، بأن المرء وُلد في هذا المكان أو ذاك، وطبعاً، "افتخر أنني وُلدت في المانيا"، يقول البعض، أو تلك القطعة التي تقاطعنا عند الحدود التركية "أفتخر أنك تركياً"، أو الوهم الذي زرعه الجنرال شارل ديغول عن الفرنسيين، أنهم "القومية العظيمة"، أو الحديث المنسوب لمحمد "أنتم خير أمة أُخرجت للناس"، كل تلك الأوهام والإدعاءات التي في النهاية لا محالة ستقود للتفرقة وللحروب، للعدوانية والشر، ولدغدغدتها للأحلام الجميلة لابد وأن تخلق قيماً أخلاقية مطلقة غير قابلة للنقاش، فتموت الناس من أجلها.
 الكلمة التي ألقيت في مساء 11 آيار الماضي بمناسبة افتتاح مهرجان امسيانا الأدبي والفني الذي يُقام سنوياً في مدينة هوينأمس النمساوية

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

العمود الثامن: مطاردة "حرية التعبير"!!

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

 علي حسين في السبعينيات سحرنا صوت مطرب ضرير اسمه الشيخ امام يغني قصائد شاعر العامية المصري احمد فؤاد نجم ولازالت هذه الاغاني تشكل جزءا من الذاكرة الوطنية للمثقفين العرب، كما أنها تعد وثيقة...
علي حسين

زيارة البابا لتركيا: مكاسب أردوغان السياسية وفرص العراق الضائعة

سعد سلوم بدأ البابا ليو الرابع عشر أول رحلة خارجية له منذ انتخابه بزيارة تركيا، في خطوة رمزية ودبلوماسية تهدف إلى تعزيز الحوار بين المسلمين والمسيحيين، وتعزيز التعاون مع الطوائف المسيحية المختلفة. جاءت الزيارة...
سعد سلّوم

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

احمد حسن تجربة الحكم في العراق ما بعد عام 2003 صارت تتكشف يوميا مأساة انتقال نموذج مؤسسات الدولة التي كانت تتغذى على فكرة العمومية والتشاركية ومركزية الخدمات إلى كيان سياسي هزيل وضيف يتماهى مع...
احمد حسن

الموسيقى والغناء… ذاكرة الشعوب وصوت تطوّرها

عصام الياسري تُعدّ الموسيقى واحدة من أقدم اللغات التي ابتكرها الإنسان للتعبير عن ذاته وعن الجماعة التي ينتمي إليها. فمنذ فجر التاريخ، كانت الإيقاعات الأولى تصاحب طقوس الحياة: في العمل، في الاحتفالات، في الحروب،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram