(2-5)
"سيفيس رومانوس سوم"، "أنا مواطن روميّ"، يستشهد الارجنتيني، لكن المواطن العالمي أيضاً، لويس خورخة بورخيس في أحد حواراته، بتلك الجملة التي أراد المرء عن طريقها آنذاك في كل أطراف الامبراطورية الرومانية التأكيد على قانون المواطنة لمدينة روما، الذي يضمن له امتيازاته القانونية (حقوقه بالمفاضلة)، ثم يعلق بورخيس مباشرة، "نحن جميعاً بهذا المعنى طبعاً؛ نحن فقط ولدنا في المنفى، بعيداً تقريباً إلى جانب"، وأنا اقول، "أنا مواطن بابلي"، وفي النهاية كلنا وُلدنا في المنفى، بعضنا بعيداً عن بابل، وبعضنا الآخر بمحاذاته، ووحده تذكر بابل وبرجها الذي أُريد له أن يرتفع إلى تخوم السماء، هو تذكر لنفي قادم لا محال، ومن يصوّب نظرته تجاه الفضاء يبتعد عما حواليه.
الولادة في النفي بعيداً عن روما كما ذكر بورخيس، أو بعيداً عن بابل كما روته لنا القصص والأساطير القادمة من بلاد وادي النهرين، هي في الحقيقة امتياز كبير، رحمة إذا صح التعبير، على عكس ما كانت جلبته لنا الإقامة الدائمة في مكان واحد وحسب، ذلك ما تقوله لنا حكاية برج بابل.
وحسب القصة التي يرويها سفر التكوين (11: من 1 إلى 9) والتي تناقلتها الأقوام بكل طوائفها وأديانها ومذاهبها حتّى قبل تدوينها في العهد القديم، شرع نسل نوح بعد نهاية الطوفان ومغادرتهم السفينة في بناء برج بابل في سهل شنعار، بغية أن يجمعهم مكان واحد من الأرض فلا يتبددون على وجه البسيطة الواسعة، وكان في قصدهم جعل العالم كله مملكة واحدة عاصمتها هذا المكان الذي اختاروه في شنعار وسمّي بابل. ولكي يقيموا لأنفسهم اسماً ومجداً دلالة على كبريائهم وتشامخ نفوسهم، دار في خلد بنّائيه أن يوصلوه إلى السماء، لكن الإله السرمدي لم يكن في قصده تجمّع الناس بعد الطوفان بل انتشارهم لتعمير الأرض، وألا يذعنوا إلى الإقامة ويلجأوا إلى كبريائهم في تحدّي الرب، كان لابد أن يتوقفوا عن بناء البرج، فبلبل الإله ألسنتهم وشتّتهم في مغارب الأرض ومشارقها، وتفرقوا فعمّروا الأرض، وبسبب هذا التشتت والطقس والتربة واختلاف طرق المعيشة، نشأت أجناس الناس وتكوّنت لغاتهم المختلفة.
بهذا المغزى، برج بابل هو الوهم الأول الذي اخترعته البشرية لنفسها، إنجاز مملكة واحدة خاصة بهم، وهو للأسف ما يزال قائماً حتى اليوم، رغم أن زماننا الذي يُطلق عليه زوراً قرية عالمية، هو أكثر العصور التي مرت على التاريخ الذي لا يتقبل فيه نشوء هذا النمط من الأوهام، كأن البشرية معمل للنسيان، لا تريد تذكر بابل وتعلم الدرس، ما تزال تنجز أوهاماً جديدةً بدون توقف، كما هو وهم الأوطان الأم، القوميات الخالصة، الثقافة الخاصة، الجوهر القومي وغيرها من الأوهام، والتي تُسوق بصفتها مُثلاً عليا، حيث يصل الأمر بالبعض وفي كل أرجاء العالم بالاعتقاد، بأن هناك فضيلة خاصة تكمن، بأن المرء وُلد في هذا المكان أو ذاك، وطبعاً، "افتخر أنني وُلدت في المانيا"، يقول البعض، أو تلك القطعة التي تقاطعنا عند الحدود التركية "أفتخر أنك تركياً"، أو الوهم الذي زرعه الجنرال شارل ديغول عن الفرنسيين، أنهم "القومية العظيمة"، أو الحديث المنسوب لمحمد "أنتم خير أمة أُخرجت للناس"، كل تلك الأوهام والإدعاءات التي في النهاية لا محالة ستقود للتفرقة وللحروب، للعدوانية والشر، ولدغدغدتها للأحلام الجميلة لابد وأن تخلق قيماً أخلاقية مطلقة غير قابلة للنقاش، فتموت الناس من أجلها.
الكلمة التي ألقيت في مساء 11 آيار الماضي بمناسبة افتتاح مهرجان امسيانا الأدبي والفني الذي يُقام سنوياً في مدينة هوينأمس النمساوية
أنا المواطن من بابل
[post-views]
نشر في: 23 مايو, 2017: 09:01 م