سعد محمد رحيملابد من أن نفهم أولاً أن الديمقراطية ليست غاية بحد ذاتها، بل هي وسيلة سياسية عصرية لبناء المجتمع والدولة من خلال مجموعة من الآليات والقوانين، وبوجود مؤسسات فعالة، على أن تُمارس على وفق قواعد أخلاقية وعملية محددة.
وكأية تجربة إنسانية فهي أيضاً لا تخلو، في أثناء التطبيق من عيوب، ولاسيما في المجتمعات التي لم ترسخ تقاليد سياسية صحيحة تماماً، ولم ينضج الوعي الديمقراطي عند نخبها وشرائحها المختلفة بدرجة كافية. لكنها (أي الديمقراطية) تبقى الخيار الأكثر ملائمة لخلق حياة سياسية صحية ومنتجة. وباستثناءات لا تكاد تُذكر فإن الأنظمة جميعها، في عصرنا الحالي، بما فيها الاستبدادية، تقول بالديمقراطية وتتبجح بأنها تأخذ بها، ويضطر بعضها للقيام بإجراءات شكلية خادعة لتموه الآخرين حول شرعية وجودها، كما هو حاصل في معظم البلدان العربية. وإذن فإن الممارسة الديمقراطية هي معيار الشرعية الأول، وليس الوحيد، لأي نظام سياسي راهن. وبطبيعة الحال فإن تلك الممارسة لا تقتصر على إجراء الانتخابات وإن كانت الانتخابات هي روح العمل الديمقراطي ومفتاح نجاحه، والضمان الأساس لمستقبل المجتمع واستقراره السياسي. وحين تشوب العملية الانتخابية ما يطعن بها وبشرعيتها فإن مجمل الحقل السياسي يكون في مرمى الخطر، ولا شيء يؤسس لحياة سياسية ديمقراطية مثل مجموعة من القواعد والقيم الأخلاقية التي يجب أن تكون من ضمن خصائص سلوك أفراد المجتمع السياسي، سواء كانوا ناخبين أو منتخبين.. حاكمين أو محكومين. من الواضح أن غير المؤمنين بالديمقراطية، من الذين يستغلون أجواءها، ويتحينون الفرص للوصول إلى كرسي البرلمان أو المنصب الحكومي هم أول من يخرق القواعد الأخلاقية للنظام السياسي الديمقراطي، ليخرِّب هذا النظام من الداخل. ولعل المنتخبين الفاسدين من الذين خدعوا ناخبيهم هم من ضمن هؤلاء. فمن يلتزم بالقواعد الأخلاقية القويمة والمتعارف عليها للديمقراطية ومنها (الصدق، واحترام الخصم السياسي، وتجنب الغش، والالتزام بتقاليد وأعراف المنافسة الشريفة، الخ) لا يعقل أن يخون الأمانة والثقة الممنوحة له فيما بعد، حين توليه لمنصبه، أو في الأقل هذا ما يفترضه المنطق العقلي. أما من يبدأ بخرق أخلاقيات الديمقراطية منذ البدء، في مرحلة التنافس الانتخابي، بالغش والكذب والوعود الخادعة فلا يمكن أن ننتظر منه سوى الفساد وسرقة المال العام والفشل في إدارة الموارد التي ستوضع تحت تصرفه. وأعتقد أن أغلب أبناء شعبنا العراقي باتوا يمتلكون الخبرة والحس السليم للتمييز بين من يصدق معهم ومن يكذب عليهم. لا يتأتى الالتزام بقواعد الأخلاق الديمقراطية بمخاطبة ضمائر الداخلين في العملية السياسية فقط، وإنْ كانت نقاوة الضمير، ها هنا، شرطاً مطلوباً ومرغوباً وضرورياً. وإنما عبر وجود مؤسسات رقابية ذات كفاءة عالية، فضلاً عن الرقابة الشعبية الحية، والعين الإعلامية المتربصة والناقدة. نحن اليوم على أبواب انتخابات برلمانية مصيرية، ربما ستقرر شكل النظام السياسي العراقي لسنوات طويلة قادمة، ولعلها، كما نأمل، ستضع اللبنات القوية لمستقبل بلادنا الاقتصادي والاجتماعي والحضاري. وكلما لمسنا تقيداً بأخلاقيات الديمقراطية، في مرحلة الانتخابات، تفاءلنا أكثر بالخروج سريعاً من أوضاعنا المتأزمة، وعند حصول العكس، لا سمح الله، علينا أن نتوقع تراجعاً مؤذياً عمّا تحقق خلال السنوات الأخيرة (وهو، بالتأكيد، أقل بكثير من مستوى طموحنا)، وعلينا أن ننتظر أربع سنوات عجاف أُخر.
وقفة: أخلاقيات الديمقراطية
نشر في: 20 فبراير, 2010: 05:12 م