قبل ختام دورته الحاليّة بأربعة أيام شهد مهرجان «كان السينمائي الدولي» حدثاً لا يُمكن أن يقع إلاّ على خشبة مسرح لوميير وعلى البساط الأحمر الذي يقود إلى تلك الصالة، إذْ جمعت إدارة المهرجان غالبية المخرجين وكبار الممثلين ممّن ما يزالون على ق
قبل ختام دورته الحاليّة بأربعة أيام شهد مهرجان «كان السينمائي الدولي» حدثاً لا يُمكن أن يقع إلاّ على خشبة مسرح لوميير وعلى البساط الأحمر الذي يقود إلى تلك الصالة، إذْ جمعت إدارة المهرجان غالبية المخرجين وكبار الممثلين ممّن ما يزالون على قيد الحياة ويواصلون نشاطهم، وسطّروا بأعمالهم تاريخ هذا المهرجان وتاريخ السينما العالمية. جاء ذلك للاحتفال معاً بالذكرى السبعين لأهم حدث سينمائي في العالم، والذي يحضره عدد هائل من الصحفيّين والنقاد والإعلاميين، ويأتي في هذا الاطار في المرتبة الثانية ما بعد الأوليمبياد فحسب.
113 شخصية سينمائية من بينهم 11 فائزاً بالسعفة الذهبية، جمعتهم الصورة العائلية الباعثة لأعلى فرح. ووصف المدير الفني للمهرجان تييري فريمو الحدث بأنه " ليس مجرّد احتفال بالذكرى بل مناسبة للحديث عن السينما، عن تاريخ السينما والمهرجان، مع اجيال من المخرجين والممثلين ومدراء المهرجانات”.
وتتواصل عروض المهرجان ما بين مدٍّ وجزر في مستويات الاختيارات، ويُظهر الواقع، كما يحدث في مهرجانات عديدة، بأن البرامج المُلحقة بالمسابقة الرسمية للمهرجان نفسه، أو التظاهرات الأخرى الموازية له، كـ «نصف شهر المخرجين » أكثر ثراءً وتنوّعاً من الخيارات المُدرجة في المسابقة الرسمية، التي تتراوح أهمية وجودة الأعمال المقدّمة فيها بالمستويات، وقد برز ذلك في أكثر من فيلم في هذا البرنامج، ومن بين ذلك شريط « الخيّال » للمخرجة الأمريكية (صينيّة الأصول) كلوي زهاو، التي سبق وأن فازت بفيلمها «الأغاني التي علّمني إياها شقيقي» قبل سنتين بجاىزة برنامج «نظرة ما».
بعض عروض المسابقة الرسمية أنستنا ما على مرّ على شاشتها من أفلام ضعيفة لا تستحق التواجد في المسابقة، وعدد هذه العروض قليل حتى الآن، وبالفعل ما يزال فيلما « الساحة » للسويدي و «نهاية سعيدة » للنمساوي مايكل هانيكة، يُهيمان على سلّم تفضيلات النقّاد وفق المجلات المتخصّصة بالسينما.
وبالأمس أُضيف إلى هذه التفضيلات عمل جميل آخر للمبدعة اليابانية ناوومي كاواسي، والتي صارت واحدة من المخرجين الذين لا يُضيّع مهرجان « كان » فرصة عرض أعمالهم.
لا وجود للّون دون الضياء
وقدّمت كاواسي شريطها الأخير الذي حمل عنوان « Radiance ». وكديدنها مسّت كاواسي أطراف وعمق عالم مقصيٍّ آخر، حمّلته شاعرية خاصّة بها تقول عنها:
لا وجود للألوان دون الضوء. لا وجود للصورة دون الضوء، ودون الضوء لا يُكمن إنجاز فيلم، وبإمكان المرء أن يقول بأن الضوء، بشكل ما هو السينما.
وتُضيف “ نحن نسبح بشكل طبيعي في النور، لكنني انتبهت إلى ذلك بمغزاه الحقيقي عندما اكتشفت وجود الكاميرا. فعندما نُثبّت الضوء على الشريط فإنّنا نُثبّت الزمن أيضاً بشكل أو بآخر. فإذا ما تمكّن ضرير من مشاهدة السينما، وإذا ما تمكّن من كتابة حكاية حول الفيلم، فإن النتيجة يُمكن أن تسحر جميع الناس في العالم الذين تسحرهم جاذبيّة السينما”.
ميساكو شابّة تعمل في إطار كتابة وتسجيل الوصف الصوتي للأفلام لصالح فاقدي البصر، وتؤدي ذلك العمل بتفانٍ وإيثار كبيرين، وقد شملها هذا الحب المتنامي للصورة وروايتها لأن السينما تُتيح لها فرصة الهرب من الواقع، ومن الأوضاع التي ليس بمقدورها تغيير مساراتها. فلدى السينما القدرة على قلب سلبيات الأمور إلى إيجابيات”.
وبسينماها المتميّزة سعت ناوومي كاواسي إلى قلب سلبيات الأشياء، وواصلت الإبحار في عالم المقصيّين والمبعدين من المجتمع، واناولت في فيلمها السابق «آن» عن مواصلة المجتمع إشاحة البصر عن « القديم » واعتباره ثقلاً ينبغي الخلاص منه أو مراوغته، وفعلت ذلك عبر لقاءٍ ما بين سيّدة عجوز تعرض على صانع حلوى بسيط خبرتها ومساعدتها، فيرفض الطلب بسبب عدم قدرته الاقتصادية تشغيل شخص آخر في مقهاه الشعبي الصغير، تلك السيّدة العجوز، تعيش في « كومونة » لضحايا الجُذام الذين أُقصوا إلى خارج المدينة فقط لأنهم يحملون على أجسادهم آثار مرض برأوا منه. لكن صاحب المقهى، وبعد أن يتذوّق في لحظة خيال سادر الحلوى التي أهدتها إليه السيّدة العجوز، يكتشف مقدار عذوبة وحلاوة تلك الكعكة المصنوعة من الفاصوليا البُنّية. ويتحوّل وجود تلك السيّدة في المقهى إلى دافع لزيادة مُطّردة ومفاجئة لمدخول الرجل.
حين ترفع رأسك ترى الأبعد
القصيّون، أو بالأحرى المقصيون الآخرون الذين تجول ناوومي كاواسي في عوالمهم هم العميان وفاقدو البصر، والذين غالباً ما يحوّلهم المجتمع إلى ثِقلٍ، إمّا بالتجاهل أو بالشفقة المُصَغِّرة للكينونة البشرية. وهو ذات المجتمع الذي ينسى، أو يتناسى عمداً أو جهلاً، بأن فقدان البصر لا يعني على الإطلاق فقدان القدرة على رؤية الأشياء، وبأن الكثيرين من الذين فقدوا بصرهم منذ الولادة أو خلال الحياة، إنّما تتطوّر عندهم « البصيرة » وتزادا قوة وفاعلية في رؤية عمق الأشياء وكُنهها.
وتُثبّت المخرجة تلك الحقيقة في الفيلم عبر حوار يدور بين المصوّر الفوتوغرافي البارع ناكاموري الذي بات على مرمى حجرٍ من العمى المطلق والشابة ميساكو بعد جدل بينهما “ أنت تعتقدين بأنّني لا أرى. صحيح أنّني فقدت البصر، لكنّي حين أرفع رأسي إلى الأعلى إنّما أرى أكثر ممّا يراه غير العميان…”.
ولا تكتفي ناوومي كاواسي بعرض ذلك عبر كلمات شخصيتها الرئيسة في الفيلم، بل تضع تلك الشخصية أمام اختبار « البصيرة ». فعندما يتعرّض ناكاموري إلى حادث سرقة كاميرته القديمة التي أنجز بها غالب أعماله ويُسمّيها « قلبي النابض »، تكفيه في تلك اللحظة، وهو طريح على الأرض، رؤية ظلٍ لحمرة حذاء السارق الهارب، أن يعي بأن سارق الكاميرا، هو ذاته الزميل الذي سرق منه أعماله ونشرها في واجهات المجلات الكبيرة بعد أن فقد ناكاموري قدرة البصر.