قبل عامين كتبتُ في عمودي هذا عن "باليه" تعتمد رواية لـ"فيرجينيا وولف". عمل الباليه كان بعنوان "أعمال فيرجينيا وولف". قبل أيام حضرت عرضاً، منقولاً نقلاً حياً عن مسرح البولشوي في موسكو، لباليه تعتمد رواية لا تقل شهرة، هي "بطل من هذا الزمان" للشاعر الروسي ليرمونتوف (14 ـــ 1841). قُتل على أثر مبارزة وهو في السادسة والعشرين من العمر. الرواية جاءتنا أواخر الستينيات بطبعة "دار التقدم" السوفيتية آنذاك، وترجمة سامي الدروبي. كانت رواية غنائية، في نثرها وأحداثها. بطلها لا يختلف عن أبطال الروايات الوجودية الشائعة يومها، ولكن الفارق جوهري؛ فيما البطل الوجودي الغربي بمسحة كآبته الباردة يتحرك في أفق غائم شبه معتم، كان "بيشورين"، بطل ليرمونتوف" يتحرك حاراً في أفق مفتوح بين سهوب ووديان مشمسة. إنه أقرب إلى البطل الرومانتيكي الذي أشاعته شخصية الشاعر الانكليزي "بايرون"؛ شاب بلباس الفرسان في الجيش القيصري، سرعان ما يستجيب للمغامرة وللحب، بالرغم من عدم احترام دفين للمرأة، ولكنه في كل مرة سرعان ما يدب فيه الملل والسوداوية التي لا تخلو من سخرية. وما من غرابة أن نجد الروائي الفرنسي الوجودي البير كامو يُصدّر كتابه "السقطة" بهذا المقطع من رواية ليرمونتوف: ".. فاستاء بعضهم استياءً فضيعاً من تصويرنا نموذجاً يبلغ من ابتعاده عن الأخلاق ما بلغه "بطل من هذا الزمان"؛ وقال آخرون في كثير من الرقة والرهافة، لا شك أن المؤلف قد رسم صورةَ نفسه، وصورة من يعرف من الناس. إن "بطل من هذا الزمان"، ايها السادة، لهو صورة حقاً، ولكنه ليس صورة رجل واحد. إنه صورة تضم رذائل جيلنا كله، وقد بلغت كمال التفتح."
حجزت مقعداً عبر الانترنيت، ومن الانترنيت أنزلت الرواية وقرأتها قبل المشاهدة. وأخذني الطمع في الاستزادة، فرحت أفتش عن أفلام وُضعت لها فعثرت على فيلمين روسيين، ولكن المؤسف أنهما متوفران دون ترجمة، إلا جزءاً شاهدته يمتد لـ45 دقيقة. حصيلة استعداد لا بأس بها لمشاهدة عمل الباليه، الذي تقدمه فرقة البولشوي الروسية العريقة.
الرواية، وهي عبارة عن يوميات تركها "بيشورين" العسكري عبر تنقلاته في بلاد القوقاز، تتألف من خمسة فصول لخمس قصص. مصمم الرقص "بوسوخوف"، ومعد النص " سيريبرينيكوف" انتخبا لعملهما ثلاث حكايات أساسية: الأولى "بيلا"، القوقازية المسلمة، التي يقع "بيشورين" في حبها. يُغوي أخاها المراهق بتوفير فرس أبيض يحلم بامتلاكه، على أن يُهرب إليه أخته. يخطف "بيشورين" الجميلة "بيلا"، وفي منفاها الغريب يحاول جاهداً استمالتها. وما أن تفعل أخيراً حتى يبدأ يفقد عاطفةَ حبه. يهجرها إلى مصيرها، وقد فقدت كل أمل في العودة.
القصة الثانية "تامان"، وهي مدينة ساحلية على البحر الأسود، يُقيم "بيشورين" في بيت خرب فيها، يضم امرأة مسنة وصبي أعمى وفتاة تُدعى "أنداين"، يكتشف فيما بعد أنهم مهربون. يقع في حب الفتاة طبعاً، ولكنها ما إن عرفت باكتشافه حتى سعت لإغراقة، إلا أنه تخلص بأعجوبة. في حين هربت هي بزورق إلى مجاهل البحر.
القصة الثالثة "الأميرة ماري"، التي تزور مع أمها منتجعاً للمياه المعدنية. يلتقيها هناك "بيشورين"، كما يلتقي صديقاً قديماً هو الجندي "غراشنتسكي"، الذي يقع في حب الأميرة، وهو حب من طرف واحد. ولكي يبدد ملله، يسعى "بيشورين" إلى إيهام الأميرة بحبه، وفي نفس الوقت إلى التنكيل بعواطف صديقه العاشق، الأمر الذي يقود إلى المبارزة، حيث يفقد البائس "غراشنتسكي" حياته.
حبكات شائكة ما كانت، في ظني، طيعة للرقص. ولكن المَشاهد على المسرح وفرت لي قناعةً مختلفة. فالتعبير الذي تقدمه حركات الأجساد ككل، والأجساد كأعضاء، وافية إذا ما لاقت مصمماً لها بارعاً. ومبدعو البولشوي في فن الباليه معززون بتاريخ عريق. ويكفي أن تتابع استجابة الموسيقي تشايكوفسكي في أعماله "كسارة البندق"، "بحيرة البجع"، "الحسناء النائمة"، وسترافنسكي في أعماله الطليعية "الطائر الناري"، "بيتروشكا"، "شعائر الربيع"... أو الفرقة الروسية للبالية التي أسسها سيرجي دياغليف.
بطل من هذا الزمان
[post-views]
نشر في: 28 مايو, 2017: 09:01 م