TOP

جريدة المدى > عام > ضياءُ الحب

ضياءُ الحب

نشر في: 29 مايو, 2017: 12:01 ص

إلى أم فراتنظفت بيتهما البسيط،  ثم فرشت الشرشف الأبيض الوحيد لديهما على طاولة هرمة لا تستطيع الوقوف على الأربعة الا بصعوبة بالغة.صفت شموعها الخمسة والعشرين على صحن ورقي، كانت به حلويات اشتراها لهما صديق بمناسبة عيده ميلاده.زيّنت شعرها بوردة حمرا

إلى أم فرات

نظفت بيتهما البسيط،  ثم فرشت الشرشف الأبيض الوحيد لديهما على طاولة هرمة لا تستطيع الوقوف على الأربعة الا بصعوبة بالغة.
صفت شموعها الخمسة والعشرين على صحن ورقي، كانت به حلويات اشتراها لهما صديق بمناسبة عيده ميلاده.
زيّنت شعرها بوردة حمراء سقطت من باقة ورد في حفل سياسي اقامه الحزب الذي لم تعرف سواه.
لبست ثوبها المشجّر بوروده الحمر، والذي اشتراه لها في عيد زواجهما العاشر، واحتفظت به، بل حافظت على وزنها كي تستطيع لبسه كلما حلت ذكرى زواجهما، عدا فترات حملها بأطفالهما.
ورود ثوبها المشجّر لها اكثر من معنى، انها باقة ورود حبه، ولونها الأحمر هو لونهما المفضل جمالياً وسياسياً، ولاحقاً يتحول هذا اللون الى كابوس يلاحقهما في صحوها ومنامها..
جهزت حقيبة سفرها الذي سيكون فجر غد.
اعدّت كل ما يحباه لتحيي معه ليلة الاحتفال بعيد  زواجهما، وليلة سفرها الموسمي لرؤية ابنتهما التي تعيش خارج وطنها..
جلست بعد  أن اكتمل كل شيء، تنتظر سماع خطواته المسرعة، فكل يوم يعود اليها بلهفة عاشق ينتظر موعده الأول، وتستعد هي لهذا اللقاء وكأنها احبّته لتوها..
لهفتهما للبعض لا تخف الا في احيان قليلة، واليوم تشعر كما هو في كل عام، كأنها تعيش حبها في اوج لحظاته..
كيف تتناغم خطواته مع خفقات قلبها، لم يتدربا على هذا اللحن، ولم يؤلفا نوتته، لكنها تسمع لحنه عن بعد، وهو يشعر بحنين قلبها، وخفقه، رغم ضجيج المدينة وصوت الانفجارات أو اطلاقات الرصاص.
الحب لا توقفه ادوات الموت، لأن سمفونية الحياة والحب اعلى من سكون الموت.. فتح الباب، فغشت عينيه انوار الشموع وباقة زهور ثوبها التي ركضت نحوه، فتلقفها قبل أن تتناثر على الأرض. احتضنها ورفعها عاليا، دار بها بكل الاتجاهات، ليعرف شرق الحب وغربه، شماله وجنوبه، أيّ مساحة تشعب بها هذا الحب وامتد..
لم تبق إلا ساعات قليلة لتغادره الى المطار. اصرت على الاحتفال بعيد زواجهما، حتى وأن سرقا ساعات الليل وفجره.المهم بهذا اليوم ..انهما معاً، وستبقى ضمن محيط حبه، حتى لحظات رحيلها..
حب يمد جذوره بعمق في تربة حياة لا تعرف الا الشراكة. ايمانهما ببعضهما، وبما يشتركان به، لا يمكن أن يكون الا بهذا العمق والصفاء، وبدون ذلك لن ينتمي لهما.
اطفأنا شموع خمسة وعشرين عاماً، لم تجعل عاطفتهما تبدو كخشب قديم، أو كستارة شحب لونها، أو كلمة سقطت حروفها، أو قلب اختلت خفقاته، وطفرت منه خفقة خارج السرب..
حبهما ضياء وشعاع، ظّل براقاً، ضمهما تحت جنحه، شعرت بأمانه الذي ألفته منذ اكثر من عقدين.
غفت قليلاً، ثم صحت مرعوبة، فاحتضنها وقال:
- لا تقلقي.. لم يبزغ الفجر بعد، امامنا كل ضياء الكون.
قالت:
- صحيح، لنا كل الضياء.. لأننا الحب وضوئه.
فلتت بهدوء من بين ذراعيه وبدأت تستعد لتهيئة احتياجات السفر، جلس يراقب حركتها النشيطة، التي يحبها، وعندما انتهت عادت إليه لتقول:
- اوصيك بحبي، امانتي الوحيدة.. اوصيك بك، حافظ على نفسك، لأن قلبي يسكن تلك النفس..
ضمها الى صدره وقال:
- انت النفس والقلب.. انتظرك بلهفة منذ هذه اللحظة..
اثناء ذلك، رنَّ هاتفه النقال، فقد وصل صديقهما الذي سيقلها الى المطار.
ودّعته وقالت:
- لن ابكي هذه المرة، لأن غيابي لن  يطول.. ثم اوصته أن يبقي هاتفه النقال قريباً منه، كي تطمئن عليه، وأن يتأكد من عمل الهاتف الأرضي، الذي قلما يعمل، لكنه يبقى في النهاية وسيلة اتصال في بلد تنقطع فيه كل سبل الاتصال في غالب الأحيان..
عندما ودعته شعرت بنبض حزين في قلبها، ليس بالخفقان، صوتٌ لا تعرفه، وشعور سقط كحجر أصدر انينا، كأنه جرس كنيسة..
امسكت بيده، ونظرت بعينيه، وقالت:
- ليس لي إلا ضياء حبك، اوصيك به. ابتسم وقبلها، ثم شعر بجفاف في فمه، حتى أن كلماته تيبّست على شفتيه..
حمل حقائبها وأوصلها الى باب السيارة..
منعوه اصدقاءه من مرافقتها الى المطار، لأنهم عرفوا أن ذوي الثياب السود قد اماطوا اللثام وبدأوا يترصدوه..
ودّعا بعضهما، غادرته وعلى زهور ثوبها رائحة الشمع ودفء حب، وكلمات عالقة على اغصان ورودها الحمر..
طوال الطريق الى المطار، وفي الطائرة التي حلقت عالياً، كانت تبتسم بحنو، لهذا الذي تركته حاملاً شوقه وامانة حبهما..
تعرف انه ينتظرها، بنفس لهفتها. ظلت مبتسمة تحيطها هالة ضياء حب، وصوت كلماته الأخيرة يرنّ صداها كناقوس لا تعرف لماذا تغيّر رنينه.. ناقوس كان مثل صوت الصبح وشذاه، لكنه صار شجناً خافتاً، كهمس أو نحيب..
وصلت الى مطار السويد، والصديق الذي كان بانتظارها بدا متعباً، وكأنه لم ينم منذ اربع ليالٍ أو أكثر، فاعتذرت منه، وقالت:
- يا الهي، لم ارد أن تتحمل كل هذا العناء. استطيع أن استأجر تاكسياً، أو اتصل بأبنتي..
اجابها بصوت مرتعش:
- عليك أن تعودي الى العراق حالاً!
سألته بصوت قوي، كأنه حديد وصداه، وعيناها تحولتا الى سهم ناري، يريد أن يخترق السر المخفي خلف وجه الصديق وبين ارتجاف صوته:
- ولماذا؟!
- يجب أن تعودي. ثم سكت.
لا وجود لكلمات تخفف من صدمة الخوف من رحيل حبيب، فكل الكلمات تتحول الى سكين يطعن الفؤاد، وحروفها تتحول الى ستارة لحجب الضياء..
آخر تهديد وصله مغلف رسائل به طلقة، دون أية كلمة..
قتلوه.. ليس بطلقة، بل خنقوه  بسلك الهاتف الأرضي، الذي لم تكن له اية فائدة تذكر، فحوّلوه الى وسيلة قتل.. خنقوا كلماته.. كلماتهم المتبقية بعد احتفال زواجهما، فمات بعد مغادرتها البيت بوقت قصير..
سقطت كل الكلمات على أرض المطار، واصدرت نحيباً، امتد لشهور وسنوات.. خنقوه وشموع احتفالهما لم تنطفئ بعد.. وتبعثرت على أرضية المطار ورود ثوبها الأحمر، وتيبّست قبل انقطاع نفسه الأخير..
خنقوه لكنهم لم يتمكنوا من حجب ضياء حبهما.. وصورة وجهها مرسومة بعينيه..
عادت الى المكان الذي ضمّ بقايا احتفال حبهما، الذي لا ولن يعرفه قتلته.. كسروا نور الشمع.. وفتتوا كلمات وداعهما.. لكنهم بحثوا عن حبه فلم يجدوه، لأنهم لا يعرفوا اين وكيف يولد وينمو الحب الذي ظل يضيء أيامها في عالم يزحف فيه الكره كالسرطان..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

رولز رويس أم تِسْلا؟

جُبنة ألسخوت(*)

موسيقى الاحد:أريش فولفغانغ كورنغولد

صورة سيفو في مرآة الوهايبي

نادي السرد في اتحاد الأدباء يحتفي بالقاص حميد الزاملي

مقالات ذات صلة

"لِوِيسْ بَاراغَانْ"" src="https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2025/02/5852-7-2.jpg">
عام

"مُخْتَارَات": <اَلْعِمَارَةُ عِنْدَ "اَلْآخَرِ": تَصْمِيمًا وَتَعْبِيرًا > "لِوِيسْ بَاراغَانْ"

د. خالد السلطاني معمار وأكاديمي هل بمقدور نوعية <ناتج معماري> محدد أن يؤسس لسمعة معمارية عالمية؟ وهل بوسع <مفردات> معمارية بسيطة ومتواضعة.. ومحتشمة ان تكرس مثل ذلك التمجيد وتضفي ثناءً ومديحاً لمعمارها المصمم؟ وهل...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram