"ستكلفكم العملية الجراحية فوق الكبرى مبلغ 12 مليون دينار " ..قالها الطبيب للمريضة وذويها ببساطة متناهية فهو يدرك جيدا ان لاخيار أمامهم إلا تدبير المبلغ واخضاع المريضة للعملية...وهكذا فعل أهل مريضة السرطان التي لم تجد مكانا لها في مستشفيات العراق بعد ان قيل لها انها ستحصل على العلاج الاشعاعي بعد اشهر بسبب عطل في الاجهزة واقتصار العلاج على اثنتين من المستشفيات فقط ، فقد اضطروا الى تدبير مبلغ مناسب وسافروا الى الهند لتلقي العلاج ..
بعض المرضى لايمكنهم تدبير تلك المبالغ الكبيرة لذا ينتظرون دورهم لدخول ثلاجة الموتى التي يحتاج الخروج منها ايضا الى تدبير مبلغ مناسب ليتم اكرام الميت بدفنه !!
في بلدي ، يردد الصغار في المدارس عبارات جاهزة تضمنتها كتبهم عن مجانية التعليم والخدمات الصحية لكنهم يشترون الكتب المدرسية من الاسواق التجارية ويمضون العام الدراسي كله في تلبية طلبات المدرسة المادية فضلا عن اضطرارهم الى شراء الملخصات الدراسية وتلقي دروس خصوصية ليفهموا دروسا لايجهد المدرسون أنفسهم في تفصيلها ...ويقصد اهاليهم العيادات الطبية ليدفعوا اجور فحص باهظة تليها بعض الطلبات التي يراها الاطباء ضرورية جدا للتشخيص كالتحاليل والاشعات والسونار والرنين والمفراس وما الى ذلك وكلها تحتاج الى مبالغ كبيرة يضاف اليها اجور الأدوية التي انعشت سوق الصيدلة وجعلت المريض يقف مترددا امام الصيدلي ليسأله عن كلفة الدواء الكاملة قبل أن يشذب قسما منها ويلغي فقرات كاملة أو يعود أدراجه ريثما يدبر المبلغ المطلوب ..
لاأدري لم شعرت أمام موقف مشابه لأحد المرضى بأننا نضطر الى شراء حياتنا في بلدنا ..نحن نشتري الغذاء والدواء والتعليم وفي السنوات الاخيرة صرنا نشتري الأمان ايضا ، فمن يملك مالا يمكنه الافلات من قبضة رجل مرور او شرطي يبالغ في ردة فعله ليقول له انه ارتكب مخالفة بينما يمكنه السكوت عنها مقابل مبلغ مالي ، ومن يملك مالا يمكنه حماية تجارته مقابل مبلغ من المال يدخل الى جيوب المستفيدين من قوات أمنية او مسؤولين في مؤسسات حكومية ...كل مافي حياتنا حاليا يحتاج الى تدبير مبلغ من المال ..حتى لحظات المرح والسعادة فهي حكر على من يملك المال ليخرج في نزهة أو يدعو اسرته الى مطعم أو مكان ترفيهي ..لايمكننا بعد هذا ان نجزم بوجود الاشتراكية في بلدي فهناك العديد ممن لايملكون ثمن الغذاء والدواء والتعليم والترفيه وبالتالي فهم محرومون من تلك النعم البسيطة التي ينبغي توفرها لهم في بلد تدغدغ خيراته أحلام الدول الكبرى وتجعله قبلة للطامعين ...
متى سيمكن للفقير ان يجد مايسد جوعه ويشفي مرضه ويوفر الكتب لاطفاله ويمنحه متعة الشعور بانه من الاحياء ؟..لن يتحقق ذلك بالتأكيد في زمن يصبح فيه الموت اسهل الحلول لمن يعجز عن علاج مرضه أو اعالة اسرته فامامه أحد خيارين ، إما انتظار الموت أو الانتحار لأنهما أفضل بكثير من ان يعيش ميتاً بين الأحياء ...