أجمل لحظات التاريخ الإنساني هي اللحظة التي نام فيها البطل جلجامش وضيع عشبة الخلود، فقد كانت لحظة إفاقته وندمه لحظة خلودنا الحقيقية، إذ ما نحن دون جملة الاسرار التي تنطوي عليها حياتنا، وأية أهمية لحياة واضحة، معلنة في أدق تفاصيلها، كان العقل العراقي الأول قد أنتج للإنسانية واحداً من اهم أسرار الوجود الانساني، تلك القصة العظيمة التي أفهمتنا الخلود الحقيقي، الخلود الواقع بين دائرتين أبديتين: الحياة والموت.
منذ اللحظة تلك تمكّن الانسان من اجتراح قضية وجوده، ضمن منطوق قبِل به واستمرأه، كما لو أنه حلم يبدأ بالحياة ويفنى بالموت، وكل محاولة خارج ذلك كانت محكومة بالرفض، لكنَّ الجمال ظلَّ كامنا في آلية القبول والاستمراء، حتى خلُص الى التهيئة الفعلية والاستعداد التام لقانون الخلود، قانون البداية اليافعة والنهاية الخانعة، ومن خلال ذلك راح يؤثث المسافة التي تفصل بين اليفاعة والخنوع، بما استطاع من أصوات وألوان وقصص.
أفتح المذياع على أغنية لمطربة كانت جميلة الصوت والشكل في السبعينيات، ودونما دراية مني أكتشف أنَّ التسجيل للاغنية هذه كان متأخراً، جديداً، ومن أعمال سنواتها الأخيرة، هي غنته في حفل جاهدت فيه لأن تكون، لكن الزمن خذلها، وهذا ما بدا لي واضحا من خلال صوت وشكل وحركة يديها، كانت أنفاسها تتقطع، وتجد صعوبة في تصعيد لحظة الافتتان، هي فقدت الكثير من ألق صوتها، كذلك فعلت السنوات بوجها وعنقها وأصابعها، لكنني كنت أسمعها بصوتها الأول، وأشاهدها بصورتها الاولى، تلك التي أحببتها فيها قبل ربع قرن أو يزيد. كان المذياع مسافة طويلة بين اليفاعة والخنوع.
ولكي أجعل من ذلك تبريراً لي في الاحتفاء الكامل بالحياة، على الرغم من سلسلة الآلام التي تطوق وجودي، رحت أتأمل في جانب من لوحة على الجدار، هي من اعمال الرسامين الملونين الكبار، ومثل رجل تقوده عصاه كنت أتدرج في سلالم الالوان، إذ لم يكن الاخضر أخضر مطلقاً في اللوحة، ولم يكن الأزرق أزرق مطلقا في سمائها، كذلك كان الأحمر والاصفر وسواهما، كنت أقول ماذا لو أن الطبيعة كانت قد انتهت إلينا بمطلق اللون دون تدرجاته، أيّ حياة ناقصة سنحيا، ماذا لو انها جعلت البلبل بلبلاً بريش أسود فاحم، لكن دونما صوت، وأنها تركت النهر يجري صامتاً، لا يحدّث ضفتيه ولا يشير الى نهايات سعيدة بين النخل؟
في ساعات الضجر والملل التي كثيرا ما تجتاحنا، نحن الذين اكتوينا باكرين بنار الحرف والالوان والموسيقى، كنت أحدّث نفسي عن قيمة الوجود الإنساني خارج قصائد الغزل مثلاً، او بدون الموسيقى، وبعيداً عن تأمل الألوان وأقول أي قسوة تلك التي يريدها لنا أعداء الجمال، أولئك المنبعثون من بطون المقابر، الذين ينظرون للكائن الانساني من فتحة القبر حسب، غير مجسّرين وجوده بين نقطتي الحياة، ظانين بالآلهة ظنَّ السوء، هذا إن كانت لهم آلهة غير آلهة الجلد والقتل والنار.
أجدُ أنَّ وجود فيروز مثلاً وجود الضرورة، ولو أنَّ السماء لم تهبنا إياها لجاهدت سماوات أخر في ابتداعها ، وافتراضات خلق اليد لتناول الاشياء، حسب مثلاً، يقضي بخلقها خارج حدود الجمال، وكذلك الحال في معنى خلق الانسان والمرأة على وجه الخصوص، فالوجه والعين والشفة والنهد وو..، كلٌّ جاء بوظيفة ما، وكانت لتؤدي وظيفتها بأي صورة وشكل عليه، لكنَّها جاءت بالجمال والكمال اللذين نعرف، لننظر ونتمتع ونبتهج، ولو أنَّ ردف المرأة كانت للجلوس حسب، لما كانت على الجمال الذي هي عليه. هنالك شيء يمور ويعتمل ويحفر عميقاً في الروح، شيءٌ اسمه الجمال، وهذا ما يريد سلبنا إياه فقهاءُ الظلام.
نبدأ بالحياة ولا نفنى بالموت
[post-views]
نشر في: 3 يونيو, 2017: 09:01 م