سافرت لـ "مالمو" السويدية بدعوة من معرض كتاب هناك. وهو أول معرض للكتاب العربي يُقام في اسكندنافيا، على حد ما قرأت. جئتُها من مطار كوبنهاغن، عبر الجسر العملاق الذي يقطع مضيق Öresund. مالمو، التي تُعتبر عاصمة إقليم Scania في الجنوب السويدي، مدينة ريح باردة لا تهدأ، بالرغم من أنها تُعتبر دافئة بين المدن التي تقع على ذات خط العرض. مدينة اللاجئين العرب ( يبدو أن الجالية العراقية هي الغالبة)؛ مدينة سيارات أجرتهم، سوقِ خضارهم ومطاعمهم الشهية، ومافياتهم الخطيرة أيضاً.
معرضُ الكتاب متواضعٌ من حيث عدد دور النشر المشاركة؛ حتى لتكاد تنفرد بالنشاط فيه "دار المتوسط" بزحمة عناوينها التي تتمتع بالتنوع وغنى المادة. نشاطُ المعرض الثقافي، لأربعة أيام متتالية، يكاد يقتصر على الكتاب السوريين والفلسطينيين السوريين. وفي هذا استجابة طبيعية لمركزية المحنة السورية اليوم. ولعل غنى تجمعهم لا يتّضح في أماسيهم حول الرواية وفي القراءات الشعرية، قدر ما يتضح في جلساتهم في بهو المعرض، أو بهو الفندق أو أبهاء المطاعم والبارات السويدية. إنهم بصورة عامة أوفياء لعاطفتهم، ولذلك كانت الجلسات صائتة في الأغلب، ولا تخلوا من مشادات كلامية. خصلتان يمكن أن تصلحا للغناء؛ في الطبقة الصدّاحة، أو في معترك العواطف داخل النفس، ولا تصلحان للحوار مع الآخر، الذي يتطلب هيمنة العقل المبرأ من عواطف الجذور الدفينة للانتساب العقائدي؛ الديني، الطائفي، والسياسي، ولا أغفل الانتساب الأدبي أيضاً. لأن الانتساب الأدبي لدينا، سرعان ما تتدفق فيه دماء العقيدة، ويكفيك أن تنظر إلى انتساب التقليديين أو الحداثيين، وأولئك الذي يريدون بالكلمة أو الفكرة تغيير العالم.
ولا أُنكر أن المُشاداتِ الكلامية سرعان ما تتلاشى في اللحظات الأخيرة من كل جلسة، وتعود العواطف، التي تثير لديّ الروعَ والارتياب، لتستقر، سليمةً آمنةً، في جذورها الدفينة. بدلها تشيع على الأوجه، وفي لمسات الأكف، حرارةٌ يُمليها الأسى المشترك. عادة ما أقول إلى من يجاورني بأن عدم اطمئناني لفورة العواطف يعود إلى قناعتي بأنها تُسهم، لا عن إرادة، ولو بعود ثقاب، في إشعال مزيد من الحرائق التي تلتهم بيوت الناس الأبرياء. لأنها عواطف مثيرة، ملهمة، فاتنة في أحيان كثيرة، لا لـ "أنا" كاتب الأدب وحده، بل لكل متذوقيه.
أغلب الذين أسهموا في القراءة الشعرية قرأوا قصائدهم من كتبهم المتوفرة في المعرض، والصادرة عن "دار المتوسط". شعراء في مرحلة النضج من شبابهم، تحترس قصيدتهم من الخطابة، وإذا توفرت فهي مقصودة، خشية أن يغفل القارئ أو المستمع أن مشاعر الفقدان سورية، وأنها طرية. والنصوص، من ناحية الشكل، "قصائد نثر" في مجملها، ولذلك تغلب نبرةُ النثر المعهودة على الصوت الذي يُصغي إليه الحضور. وليس يسيراً على أحد أن يميز في هذه النبرة الهويةَ الشعريةَ لصيغة الجملة، أو الفقرة اللغويتين. فهي لديه يمكن أن تكون منتزعةً من قصة أو مقالة غاية في بلاغة الأسلوب. تحدثت مع بعظهم عن موقفي النقدي بأن "قصيدة النثر" جنسٌ أدبي Genres، مُستحدث على يد بعض الشعراء الفرنسيين في نهاية القرن التاسع عشر، ثم اتسعت رقعته في فرنسا بصورة خاصة. وهو لا ينافس، بأي شكل من الأشكال، المجرى الأساس للشعر الذي يعتمد الإيقاع في العالم أجمع. ونسبة هذا الجنس الأدبي للشعر ليست صحيحة، لأنه جنس أدبي مستقل بذاته، وله جيده ورديئه. وإن انفراده بحقل الشعر كبديل، بالصورة التي نراها في الكتابة العربية اليوم، غير سليم، وهو وليد هيمنة إعلام ثقافي تشغله سيولة العملة الثقافية، والمنافسة، واصطناع النجوم. ولكن رأيي هذا لم يكن مقبولاً عند أحد منهم.
خلافُ الرأي والاجتهاد في لقاءات كهذه ذو ثمار رائقة المذاق، ونافعة دائماً. اكتسبتُ أصدقاءً جدداً، وعمّقتُ مجرى صداقات قديمة رقّقت من ألوانها المنافي المتباعدة.