TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > ثمار مالمو

ثمار مالمو

نشر في: 4 يونيو, 2017: 09:01 م

 

سافرت لـ "مالمو" السويدية بدعوة من معرض كتاب هناك. وهو أول معرض للكتاب العربي يُقام في اسكندنافيا، على حد ما قرأت. جئتُها من مطار كوبنهاغن، عبر الجسر العملاق الذي يقطع مضيق Öresund. مالمو، التي تُعتبر عاصمة إقليم Scania  في الجنوب السويدي، مدينة ريح باردة لا تهدأ، بالرغم من أنها تُعتبر دافئة بين المدن التي تقع على ذات خط العرض. مدينة اللاجئين العرب ( يبدو أن الجالية العراقية هي الغالبة)؛ مدينة سيارات أجرتهم، سوقِ خضارهم ومطاعمهم الشهية، ومافياتهم الخطيرة أيضاً.
معرضُ الكتاب متواضعٌ من حيث عدد دور النشر المشاركة؛ حتى لتكاد تنفرد بالنشاط فيه "دار المتوسط" بزحمة عناوينها التي تتمتع بالتنوع وغنى المادة. نشاطُ المعرض الثقافي، لأربعة أيام متتالية، يكاد يقتصر على الكتاب السوريين والفلسطينيين السوريين. وفي هذا استجابة طبيعية لمركزية المحنة السورية اليوم. ولعل غنى تجمعهم لا يتّضح في أماسيهم حول الرواية وفي القراءات الشعرية، قدر ما يتضح في جلساتهم في بهو المعرض، أو بهو الفندق أو أبهاء المطاعم والبارات السويدية. إنهم بصورة عامة أوفياء لعاطفتهم، ولذلك كانت الجلسات صائتة في الأغلب، ولا تخلوا من مشادات كلامية. خصلتان يمكن أن تصلحا للغناء؛ في الطبقة الصدّاحة، أو في معترك العواطف داخل النفس، ولا تصلحان للحوار مع الآخر، الذي يتطلب هيمنة العقل المبرأ من عواطف الجذور الدفينة للانتساب العقائدي؛ الديني، الطائفي، والسياسي، ولا أغفل الانتساب الأدبي أيضاً. لأن الانتساب الأدبي لدينا، سرعان ما تتدفق فيه دماء العقيدة، ويكفيك أن تنظر إلى انتساب التقليديين أو الحداثيين، وأولئك الذي يريدون بالكلمة أو الفكرة تغيير العالم.
ولا أُنكر أن المُشاداتِ الكلامية سرعان ما تتلاشى في اللحظات الأخيرة من كل جلسة، وتعود العواطف، التي تثير لديّ الروعَ والارتياب، لتستقر، سليمةً آمنةً، في جذورها الدفينة. بدلها تشيع على الأوجه، وفي لمسات الأكف، حرارةٌ يُمليها الأسى المشترك. عادة ما أقول إلى من يجاورني بأن عدم اطمئناني لفورة العواطف يعود إلى قناعتي بأنها تُسهم، لا عن إرادة، ولو بعود ثقاب، في إشعال مزيد من الحرائق التي تلتهم بيوت الناس الأبرياء. لأنها عواطف مثيرة، ملهمة، فاتنة في أحيان كثيرة، لا لـ "أنا" كاتب الأدب وحده، بل لكل متذوقيه.
أغلب الذين أسهموا في القراءة الشعرية قرأوا قصائدهم من كتبهم المتوفرة في المعرض، والصادرة عن "دار المتوسط". شعراء في مرحلة النضج من شبابهم، تحترس قصيدتهم من الخطابة، وإذا توفرت فهي مقصودة، خشية أن يغفل القارئ أو المستمع أن مشاعر الفقدان سورية، وأنها طرية. والنصوص، من ناحية الشكل، "قصائد نثر" في مجملها، ولذلك تغلب نبرةُ النثر المعهودة على الصوت الذي يُصغي إليه الحضور. وليس يسيراً على أحد أن يميز في هذه النبرة الهويةَ الشعريةَ لصيغة الجملة، أو الفقرة اللغويتين. فهي لديه يمكن أن تكون منتزعةً من قصة أو مقالة غاية في بلاغة الأسلوب. تحدثت مع بعظهم عن موقفي النقدي بأن "قصيدة النثر" جنسٌ أدبي Genres، مُستحدث على يد بعض الشعراء الفرنسيين في نهاية القرن التاسع عشر، ثم اتسعت رقعته في فرنسا بصورة خاصة. وهو لا ينافس، بأي شكل من الأشكال، المجرى الأساس للشعر الذي يعتمد الإيقاع في العالم أجمع. ونسبة هذا الجنس الأدبي للشعر ليست صحيحة، لأنه جنس أدبي مستقل بذاته، وله جيده ورديئه. وإن انفراده بحقل الشعر كبديل، بالصورة التي نراها في الكتابة العربية اليوم، غير سليم، وهو وليد هيمنة إعلام ثقافي تشغله سيولة العملة الثقافية، والمنافسة، واصطناع النجوم. ولكن رأيي هذا لم يكن مقبولاً عند أحد منهم.
خلافُ الرأي والاجتهاد في لقاءات كهذه ذو ثمار رائقة المذاق، ونافعة دائماً. اكتسبتُ أصدقاءً جدداً، وعمّقتُ مجرى صداقات قديمة رقّقت من ألوانها المنافي المتباعدة.

 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

(المدى) تنشر نص قرارات مجلس الوزراء

لغياب البدلاء.. الحكم ينهي مباراة القاسم والكهرباء بعد 17 دقيقة من انطلاقها

العراق يعطل الدوام الرسمي يوم الخميس المقبل

البيئة: العراق يتحرك دولياً لتمويل مشاريع التصحر ومواجهة التغير المناخي

التخطيط: قبول 14 براءة اختراع خلال تشرين الثاني وفق معايير دولية

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

العمود الثامن: المستقبل لا يُبنى بالغرف المغلقة!!

 علي حسين منذ أن اعلنت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، والطاولات الشيعية والسنية تعقد وتنفض ليس باعتبارها اجتماعات لوضع تصور للسنوات الاربعة القادمة تغير في واقع المواطن العراقي، وإنما تقام بوصفها اجتماعات مغلقة لتقاسم...
علي حسين

إيران في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة

د. فالح الحمـــراني تمثل استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة، الصادرة في تشرين الثاني تحولاً جوهرياً عن السياسات السابقة لإدارتي ترامب وبايدن. فخلافاً للتركيز السابق على التنافس بين القوى العظمى، تتخذ الاستراتيجية الجديدة موقفاً أكثر...
د. فالح الحمراني

ماذا وراء الدعوة للشعوب الأوربية بالتأهب للحرب ؟!

د.كاظم المقدادي الحرب فعل عنفي بشري مُدان مهما كانت دوافعها، لأنها تجسد بالدرجة الأولى الخراب، والدمار،والقتل، والأعاقات البدنية، والترمل، والتيتم،والنزوح، وغيرها من الماَسي والفواجع. وتشمل الإدانة البادئ بالحرب والساعي لأدامة أمدها. وهذا ينطبق تماماً...
د. كاظم المقدادي

شرعية غائبة وتوازنات هشة.. قراءة نقدية في المشهد العراقي

محمد حسن الساعدي بعد إكتمال العملية الانتخابية الاخيرة والتي أجريت في الحادي عشر من الشهر الماضي والتي تكللت بمشاركة نوعية فاقت 56% واكتمال إعلان النتائج النهائية لها، بدأت مرحلة جديدة ويمكن القول انها حساسة...
محمد حسن الساعدي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram