اكتشفها نانّي موريتّي في عام 2001.. وسارت على بساط «كان» الأحمر خمس مرّات:
لربّما كان في الاختصاص الذي درسته في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد، في مطالع سبعينات القرن الماضي، ما يُحدّد في كثير من الأحيان قراءاتي للفيلم الذي أشا
اكتشفها نانّي موريتّي في عام 2001.. وسارت على بساط «كان» الأحمر خمس مرّات:
لربّما كان في الاختصاص الذي درسته في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد، في مطالع سبعينات القرن الماضي، ما يُحدّد في كثير من الأحيان قراءاتي للفيلم الذي أشاهد أو المسرحية التي أحضر، وغالباً ما أتساءل:
«هل كان بإمكان هذه المسرحية أو هذا الفيلم أن يقوما دون هذا الممثل أو تلك الممثلة؟».
بطبيعة الحال لا أبخسُ حق المخرج الذي اختار وأدار ممثّله أو ممثّلته، لكن لم يكن تحقيق ما يربو إليه المخرج دون وجود من جَسَّدَ ما أراده، بل ومنح العمل طاقة إضافية. وهذا ما حدث بالفعل لفيلم « فورتوناتا » للمخرج والممثل الايطالي سيرجو كاستيلّيتو، الذي سبق وأن أدى، هو نفسُه، ادواراً مهمة وكبيرة في المسرح والسينما وأدار ممثلات كبيرات من عيار بينيلوبي كرويز التي اشتغلت معه في فيلمين هما « لا تتحركّي » و « جاءت إلى العالم ».
في هذه المرّة اختار سيرجو كاستيلّتّو الممثلة الإيطالية ياسمين ترينكا، المخضرمة فنّياً والشابة عمراً وطاقة وحيويّة. فبعد أن كانت اشتغلت معه في فيلم « لا أحد ينجو بنفسه بمفرده » في عام 2015، عاد واختارها لأداء شخصية الفتاة «فورتوناتا» والتي تعني في الايطالية « محظوظة »، وعُرض الفيلم ضمن مسابقة برنامج « نظرةٌ ما » في الدورة السبعين لمهرجان « كان » السينمائي الدولي، وفازت ترينكا في ختام المهرجان بجائزة أفضل ممثّلة، في سباق وتنافس مع عدد كبير من الممثلات اللاتي أدّينَ أدواراً جميلة في أفلام هذه المسابقة، ومن بينهن التونسيّة الشابة مريم الفرجاني، بطلة فيلم « على كفّ عفريت » من إخراج التونسيّة الشابّة كوثر بن هنيّة، وإيمّا سواريز، بطلة فيلم « بنات أبريل » للمكسيكي ميكيل فرانكو، الذي فاز بجائزة آفضل مخرج في هذه المسابقة، والمخضرمة جان باليبار التي أدت دوراً معقّداً ومتشكّلاً للغاية، حيث أدّت دور الممثلة بريجيت المُجسّدة للحياة الإشكالية والمضطربة للمغنيّة الفرنسيّة الشهيرة باربارا في الفيلم الذي منحه المخرج والممثل الفرنسي ماثيو آمالريك ذات الاسم. وقد وضع الكثير من النقّاد باليبار كمرشّحة شبه مؤكّدة لجائزة التمثيل النسائي، إلاّ أنّ النجمة أوما ثورمان، وزملاءها في لجنة التحكيم التي ترأستها، اقتنعوا بأن تلك الشقراء الضائعة ما بين الأحلام والواقع المعدم والعنيف والمرير الذي تعيشه، هي الأجدر بتلك الجائزة. وما أخطأت ثورمان وما أخطأ زملاؤها في اللجنة.
وليست ياسمين ترينكاغريبة على بساط « كان »، فقد سارت عليه لأول مرّة في عام 2001 عندما فاز نانّي موريتّي بسعفة كان الذهبية بفيلم « غرفة الإبن »، ثم عادت بشريط موريتّي التالي « الكايمانو - التمساح » في عام 2006، لتعود في السنة التالية عضوة في لجنة تحكيم مسابقة برنامج « نظرةٌ ما »، ومن ثم ببطولة فيلم «عسل» الذي وقفت به زميلتها الاكبر منها سنّاً فاليريا غولينو في عام 2013 وراء الكاميرا مخرجة للمرّة الأولى، ونال الفيلم، وأداء ياسمين استحسان النقد، وهاهي في هذه السنة، تعود إلى روما حاملة جائزة أفضل ممثلة في مسابقة « نظرة ما »، منحتها إيّاها اللجنة التي ترأستها النجمة أومأ ثورمان، كما أسلفت. واعتبر المخرج سيرجو كاستيلّيتّو الجائزة الممنوحة إلى ياسمين ترينكا بمثابة “جائزة إلى السينما الإيطالية عموماً” والتي غابت عن مسابقة مهرجان « كان » للسنة الثانية على التوالي. ولم يفُت كاستيلّيتّو، أن يرمي بعضاً من سهامه صوب نقّاد بلده حين قال، “غريب أن فيلمنا نال الإعجاب في الخارج، ومن قبل لجنة التحكيم، أكثر ممّا أحبّه النقّاد الإيطاليون… لكنّي أريد الاحتفال بهذه اللحظة الجميلة التي حقّقت فيها ياسمين نجاحها الباهر، ولا أريد الخوض في سجالات !”.
هل تعني الخسارات حظاً سيئاً؟
إذا ما استثنينا الخسارات في مباريات رياضية أو سباقات الخيل أو على طاولة القمار، والتي تترك تأثيرات سلبية مباشرة على جيب من يمارسها، فليس جميع الخسارات ذات نتائج أو تأثيرات سلبية بالمطلق، وهذا ما يحاول نصّ مارغريت ماتسانتيني، تثبيته في سيناريو هذا الفيلم، والذي حوّله رفيق عمرها وزوجها سيرجو كاستيلّيتّو إلى فيلم.
و « فورتوناتا » التي تبدو في الفيلم أغرب وأبعد ما تكون من مسمّاها، أي أبعد من أن تكون عن وفاق مع الحظ والفأل الحسن، نكتشف في النهاية أنّها، وعلى الرغم من خُسرانها كل شيء، العمل والبيت والزوج والحبيب، فإنها تربح ما لا يمكن أن يُقدَّر بثمن: أي ذاتها، وحرّيتها. وهي ذات الحرّية التي كانت تريد «فورتوناتا » لابنتها الصغيرة « باربارا » أن تمتلكها والتي تهتف بها شارقةً بالدمع في لحظة فراق “عليك أن تكوني حرّة في الاختيار، وان تقرّري ما تريدين، إذّاك فقط ستكونين سعيدة.. وحين ستُسْعَدين أنت سأكون، أنا أمك، سعيدة بمقدار اكبر”.
« فورتوناتا » شابة في منتصف العشرينات فقدت والديها وهي لمّا تزَلْ طفلة صغيرة، صارت أماً في السادسة عشرة لـ « باربارا » البالغة الآن الثامنة من العمر، فيما الأم والأب على وشك الانفصال والطلاق، وكما يحدث في هذه الحالات فإن الطفل أو الطفلة يُصبح الضحية الأولى، كما يُصبح السلاح الذي يُشهره أحد الأبوين بوجه الآخر.
تعيش فورتوناتا وابنتها في شقّة تركها الأب، الذي يعمل حارساً لأحد البنوك، وهو الذي لم يستوعب رفضها له ويحاول إيذاءها في كل لحظة يوضع العصي بين قدميها للحيلولة دون حصولها على قرض من البنك يمكّنها من تأسيس صالون الحلاقة الخاص بها، للخلاص من الحياة العمليّة القاسية التي تواجهها من خلال العمل الحرّ في التجميل وتجعيد الشعر في البيوت. حياة « فورتوناتا » عبارة عن ماكنة لا تتوقّف، وقلّما نجدها تسير أو تتكلّم بشكل بطيء، وقلّما نرى قميصها جافاً من العرق المتصبّب من جسدها.
تسعى من أجل وضع حدٍ لهذا العذاب المتواصل من خلال الحصول على القرض، لكن وضعها الاقتصادي لا يسمح لها بالحصول عليه، فلا تجد أمامها فرصة إلاّ الاستجارة بسيّدة أعمال صينية تدير شبكة من العائلات الصينية التي تُقيم في ضواحي روما، دون أن تأخذ في حسبانها مقدار «الفائدة» المضاعفة التي ينبغي عليها أن تدفعه، ولا مزاح مع عصابات الربا، أياً كانت أصولهم. في ذات الوقت تتصوّر « فورتوناتا» بأنها عثرت على الحب، حيث يُغرم بها الطبيب النفسي الذي يُعالج ابنتها، فتنساق وراء ملاحقاته وتمنحه نفسها، ظناً منها أنه الحب الحقيقي، لكن هذا يتخلّى عنها في أصعب لحظة هي تحتاجه فيها.
عالم يعيش على الهامش
يُقدّم لنا الثنائي مارغريت ماتسانتيني - سيرجو كاستيلّيتّو عالماً قائماً بذاته بعيداً الحاضرة روما وعن السياسة والمال والتكنولوجيا، عالمٌ يعيش في شريط ضيّق ومحصور ما بين أسوار روما القديمة، وأولى العمارات السكنية المبنية في ستينات القرن الماضي، والتي باتت تجمع الكل، من أولئك أتوا روما من مشارب عديدة ومن بلدان لا رابط ما بينها، ميكروكوزم متشكّل ومتعدّد الانتماءات، من صينيّين ومسلمين وهنود ومواطنين يُتوقّع أنهم من سكان روما، حافظ كلٌ منهم على هويّته وعاداته ومعتقداته، لكن الجميع اصطفى لهجة روما، أو بالأحرى لغتها، للتحاور والتواصل.لا وجود للجريمة في هذه البقعة من روما، رُغم توافر كل إمكانات واحتمالات تواجدها، لكنّ غياب الجريمة ليس دليلاً على أمان الناس، فالمجهول الذي يُخيّم على رأس كل واحد من ساكني المكان يُصبح الخطر الأكبر.يبدو الفيلم عبارة عن سباق للدراجات الهوائية لمسافات طويلة، يراهن الفريق فيه على المتسابق الأكثر أهليّة للفوز، لذا تتظافر جميع الجهود لتوفير فرصة الفوز هذه. وهو، المتسابق المرشّح للفوز، لا يدّخر ولا يأل جهداً لإبقاء إيقاع السباق حيوياً، وإذا ما اضطُرّ إلى الإبطاء للحظات، هبّ الآخرون لسدّ الطريق أمام المنافسين. هكذا قاد سيرجو كاستيلّيتّو بطلته ياسمين ترينكا - فورتوناتا، وأبطاله الآخرين، ستيفانو آكّورسي، الذي أدى دور الطبيب النفساني الغامض الذي بدا في لحظات بمثابة الملاك المخلّص، وفي حالات أخرى مثل « ياغو » الذي يحاول الإيقاع بـ «عُطَيل» لينال ما يطمح إليه، وآليسّاندرو بورغي الذي آدى دور « تشايكانو» خبير الأوشام المدمن على المخدّرات وابن ممثّلة المسرح الألمانية « لوتي » التي اشتُهرت في الماضي، وتعيش على ذكريات ذلك الماضي ومصابة بالزهايمر الآن، وقد أدّتها ببراعتها المعهودة النجمة الألمانية هانّا شيغولا.وبعد أن تنتحر لوتي بمساعدة من ابنها الذي يُدخل السجن بتهمة « قتل الأم »، وينفضّ الجميع عن « فورتوناتا » لقناعتهم كونها مصدراً للمتاعب، تنال الشابة الرومانيّة المكافحة حرّيتها، وتجد إذّاك إلى جوارها ابنتها باربارا تحمل على وجهها ابتسامة حب كبيرة.