في وقت بعيد، بداية ثمانينات القرن الماضي، كنت قد قرأت - وانا أُهيئ نفسي للدراسة في أكاديمية الفنون - موضوعاً عن الفنان ديفيد هوكني (١٩٣٧). وكان ما قرأته يشبه السيرة الذاتية وتحت عنوان (ديفيد هوكني بقلمه) عندها سحرني هذا الفنان وجذبني الى عوالمه ولوحاته وطريقته في الرسم. ومنذ ذلك الوقت بدأت ابحث عن اعماله والكتب التي تتحدث عنه وعن لوحاته، حتى صوره الشخصية كنت أرى فيها سحراً من نوعٍ خاص، بهيئته الأنيقة وعينيه الساهمتين تحت نظارات دائرية بإطار سميك، وقمصانه المسننة بخطوط طولية، وشعره الأشقر القصير، كل هذه التفاصيل جعلت صورته لا تنسى. نعم انه هوكني، أيقونة فن البوب آرت وأعظم فنان بريطاني مازال على قيد الحياة.
خرجت من (متحف البورتريت) وسط لندن وسرت في الشارع المحاذي له باحثاً عن مقهى مناسب، فظهر أمامي فجأة، ملصق كبير طبعت عليه بطريقة البوب آرت صورة ديفيد هوكني، بنظارته الشهيرة، وقد كُتِبَ أسمه في الأعلى بحروف بارزة. اقتربت من الملصق المعلق على السياج الحديد للمتحف، وإذا به اعلان عن المعرض الشامل والكبير لهذا الفنان، والذي يقام الآن في التيت غاليري، يالها من سعادة، وما أعظمها من فرصة، لتشاهد معرضاً نادراً بهذا الحجم لفنان بهذه المكانة. غيَّرت اتجاهي مباشرة واتجهت نحو التيت غاليري وانا أُمَني النفس بالحصول على بطاقة وسط الزحام الذي أتوقعه.
اثنتا عشرة قاعة، ملأتها بضع مئات من اعمال هذا العبقري الذي كان سابقاً لزمنه ومايزال كذلك. ابتدأت بالتجول بين اعمال البدايات التي تعود لأوائل الستينات حيث تميل للتعبيرية وتحريف أشكال الأشخاص بطريقة تقترب من رسوم الأطفال، وقد استخدم في هذه الاعمال أشكالاً لأرقام وأسهم وكتابات عديدة، ومن ضمنها عمله الشهير الذي رسمه لعلبة ( شاي تايفو) المفتوحة من كل الجهات وبحجم تجاوز المترين. انتقل الى قاعة اخرى لأرى تخطيطاته الرائعة، هذه التخطيطات التي جعلته واحداً من افضل الفنانين الذين مارسوا التخطيط، حيث يتحرك القلم بين يديه بغنج ونعومة ودراية كبيرة ليقدم لنا مجموعة كبيرة، تعتبر من اجمل ما قدمه الفنانون في كل تاريخ الرسم. أتوقف هنا بعض الوقت، لأغير طريقي واتجه نحو القاعة الواسعة التي خصصت لأعماله ذات الحجوم الكبيرة التي رسمها في كاليفورنيا، التي قضى فيها فترة طويلة من حياته، هذه اللوحات طغت عليها الأجواء الامريكية التي قَرَّبَتها بعض الشيء من اعمال العبقري ادوارد هوبر. ونلاحظ هنا تقنيته الجميلة في رسم الأشخاص ونقل مشاعرهم رغم سكون المكان والهدوء الذي تعكسه الواجهات الزجاجية والاغتراب الذي تعيشه بعض الشخصيات، رغم وجودها تحت سقف واحد. وإضافة الى اللوحات، رسم هوكني في كاليفورنيا العديد من أرضيات احواض المسابح، حتى أصبحت هذه الأحواض - بخطوطها المتعرجة والمتموجة وهي تتداخل من حركة الماء - من علامات فنه ولمسات ابداعه وخصوصية رؤيته الفنية.
أَدْلِفُ الى مكان آخر من المعرض لأرى الأعمال التي رسمها في مصر والمغرب ولبنان، حين زار هذه البلدان ورسم الكثير من فنادقها، تلك الفنادق التي أصبحت فيما بعد ذات شهرة عالمية بسبب رسوماته الشهيرة. لتأتي بعد ذلك البورتريهات التي رسمها في مراحل مختلفة وكذلك اعماله التي نفذها بطريقة الكولاج والتي يبدو فيها تأثره_كما تأثر في كل حياته - ببيكاسو، الذي كان ملهمه الاول دائماً، حيث نرى في احد الأعمال، هوكني وقد رسم نفسه في بورتريت ثنائي وهو يتقاسم طاولة واحدة مع بيكاسو.
ثمانون سنة هو عمر هوكني الآن، لكنه مازال متجدداً، حيث عرضت في القاعة الاخيرة للمعرض اعماله التي نفذها عن طريق الديجيتال والفوتو شوب، وبجانب كل عمل هناك شاشة تعرض مراحل تنفيذ الرسم، ليبقى هوكني متواصلاً مع فنه وهو ينهل من كل زمن ما يناسب اعماله وتطلعاته التي تتجه نحو فن رفيع يتذوقه كل محبي الرسم، لكنه بنفس الوقت يبقى فناً ذاتياً أيضاً، وكأنه مذكرات الفنان وكتاب أيامه الذي كتب فيه حياته بأسطر ملونة.
ديفيد هوكني المتجدّد
[post-views]
نشر في: 9 يونيو, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...