التنوع بصفته رحمة وغنى، والتماثل فقر وجدب للروح، لا يمكن مقارنة العمارة اليوم، المدينة ذات اللون الواحد تقريباً، بعد الغاء تنوعها، ماذا عن دمينة هوهينأمس، هل يُمكن الحديث عن المدينة دون تذكر جون أمري وستيفان تسفاينغ، هما اللذان جاء أصل عائلتهما من هنا، هل يُمكن الحديث عن المدينة دون الحديث عن الطائفة اليهودية التي شكلت ذات يوم نسبة 15% من سكان المدينة؟ اليوم تشكل نسبة المسلمين أكثر من 15%، أغلبهم أتراك، بعضهم مازالوا محتفظين بجنسيتهم، بعضهم الآخر أصبح مواطناً نمساوياً، فضلاً عن ذلك يعيش مواطنون أوربيون من قوميات أخرى، كأن التنوع هو روح المدينة الذي عليه تتشكل، وتلك الميزة نقطة تُحسب للمدينة.
العمارة وهوهينأمس هي ليست مدن ميتروبولية مثل فيينا أو بغداد، باريس أو نيويورك أو برلين، كل تلك المدن الكوزموبوليتية بالقوة، شئنا أم أبينا، والتي حتى إذا أفل نجمها في فترة من الفترات، لابد وأن تنهض وتعود من جديد، طائر فينيق أبدي، العمارة وهوهينأمس هي المدن الحافة، لكنه تنوعها السكاني، تعدد لغاتها، تعدد ثقافاثتها هو ما جعلها تبرز إلى الأمام، ما جعلها تشع إلى العالم بأنوارها سجادة مزكرشة بالألوان، ففي النهاية السماء لا تضيء فقط بالنجوم الكبيرة، كما قال مواكن كوزموبوليتي اسمه برتولد بريشت ذات يوم.
كما نرى: بابل اليوم في كل مكان، تعدد اللغات يُثمن عند الناس، رغم أن البعض لا يعرف أين ستنتهي الرحلة، رغم أن البعض يبني أسواراً وموانع وجدران لكي يوقف الرحيل، و... رغم أن البعض ورغم كل هذه الموانع يصر على التنقل ... على الرحيل.
الرحلة تتواصل. كلما كنا غرباء أكثر، كلما استوطنا العالم أكثر. البعض يستقر ويختار لغة البلاد التي وصل عليها، يكتب فيها أدباً، لنتذكر في هذا المجال، جوزيف كونراد، صاموئيل بيكيت، يوجين يونسكو، خورخة سيبمبرون ... البعض الآخر يترعرع في عائلة أو مدينة متعددة اللغات، وعندما يبدأ في الكتابة، يختار اللغة التي ظن الأهل أنها الشفرة السرية، اللغة الوحيدة التي يتكلمان بها على عكس الأبناء، لأنهما تعلما اللغة في مدينة غريبة حيث درسا قبل سنوات، هذا ما حصل لألياس كانيتي، عندما قرر الكتابة بالألمانية، وكان ممكن أن يكتب بالأسبانية. اللغة الالمانية سحرته لأنها اللغة التي تعلمها سراً من حديث والديه، البعض الآخر يريد اختراع لغة جديدة، كما فعل جيمس جويس في يوليسيس، لا ايرلندية ولا انكليزية بريطانية، لأنه كان يرفض الاثنين، البعض الآخر يواصل الكتابة في الأرض الجديدة في اللغة التي تعلمها وهو طفل، لغته قبل الهجرة، لأنها وطناً بالنسبة للبعض مثلما هي الثروة الوحيدة التي لم يستطع مصادرتها منه خفر السواحل وحراس الحدود عندما هروبه من بلاده، أو لأنه يعرف، أن المرء مهما حاول وكتب في لغة أخرى، فإن الحنين يظل للغته الأولى التي تعلمها وهو طفل، وأن المقيمين قبله من سكان البلاد التي لجأ إليها سينظرون إليه بعين الريبة، سيعتبرونه وافداً إليهم، مهما حاول اتقان الكتابة باللغة مثل أهلها، وذلك ما يجعله يشعر بالألم مع كتابة كل كتاب جديد.
كما ترون. بابل في كل مكان، طالما غبار الانسانية يتنقل مع تنقل الأقدام من مكان إلى آخر.
"أنا لا أقدر على معرفة نفسي. لست من الشرق ولست من الغرب، لست من اليابسة ولست من البحر"، قال العظيم جلال الدين الرومي، فقط بهذا الشكل يمكن انقاذ بابل الموزعة اليوم على طول الأرض وعرضها، يمكن أن ننقذها مجدداً من الطوفان.
الكلمة التي ألقيت في مساء 11 آيار الماضي بمناسبة افتتاح مهرجان امسيانا الأدبي والفني الذي يُقام سنوياً في مدينة هوينأمس النمساوية
بابل في كل مكان
[post-views]
نشر في: 13 يونيو, 2017: 09:01 م