تحملنا السماوات فنذهب، وتفتح المطارات أذرعها لنا فنهبط، تقترب الفنادق وتصيح بنا الاسرة.. فننام.. أهنَّ النساء؟ أهي الكؤوس؟ من يغرينا بمن ؟ السفر في العراق اليوم حكاية عراقية بامتياز، والحقائب صغيرة والله، إذ ماذا ينقل العراقي من بلاده الخاوية الى العالم ؟ ماذا سيحمل من رثاثتها وغبارها وأطيانها ؟ لكنه يعود محملاً. البلدان التي يزورها كلها غنية، باذخة، فيها من الثروات ما لا تستوعبه أكفُّهُ وحقائبه، لكنْ هل يعود العراقي المسافر بالمال من هناك؟ وما غنيمته أبداً، فقد ظل يرضى مكرها بإيابه من الغنيمة. وماذا يريد أكثر من أن يغمر جسده بالنساء ويطيل ساعاته بالليل ويعاقب بلاهته بالسهر. كل بلاد الله تريده وتدعوه وتفتح أذرعها له إلا بلاده، فهي الوحيدة
التي تطرده.
النساء والبحر والسهر والنبيذ والليل في بيروت، وفي بيروت جبيل ومتحف الشمع وغابة الباروك وصيدا وبيبلوس وملهى الاوتار. وفي إسطنبول البحر والنساء والليل وشارع استكلال والسمك المقلي والسحبُ الماطرة ورداً وأغنيات، وفي طهران، عاصمة خصومه المتدينين، هناك النساء والجلو كباب والترياق والجبل المغطى بالزهر وبالالوان، وفيها جالوس والساحل الأجمل على بحر قزوين وقصر الشاهنشاه، حيث يتجول. ويجد مثل ذلك وأكثر، في أوكرانيا وجورجيا وآذربايجان وماليزيا وتايوان وبيلوروسيا، مثل ذلك في غرب وشرق كرة الله الواسعة.. لكنه سيظل يدور ويبحث في الخرائط عن أجملها نساءً وألذِّها أشربة وطعوما وألطفها بحارا وسحائب. لذا سيطوي العراقي الكرة بعد الكرة ، ولن يهدأ، لن يخلد الى حجارة ترضيه! أريضيكم هذا؟
لم يعد الرغيف في العراق حلماً مثلما كان في السنوات الأخيرة، من حكم صدام حسين، لكنه صار يداف بالدم والقهر والنذالة، ولم يعد بناء بيت في العراق مطلبا عاماً، فالناس تبني من السمنت وعلى الارصفة وفي الخرائب وعلى جثث النخل المحترقة في البصرة وبغداد وكربلاء بيوتاً، هي مهاجع، حسب، وليست نهائية فللعراقي عين على الخارج وأخرى تترصد وتتحين، حيث لا هناءة ولا طعم في المساكن مهما علت وتطرمحت وزُينت، صار يركب السيارات الفارهة، وما كان منها فارها ووثيرا وحلما ذات يوم، أصبحت رطبة لينة تحت عجيزة ابن القرية والهور وعامل البناء وبائع الجواميس، كل شيء في العراق بات يسيراً، ساكناً إلا الطمأنينة فهي الوحيدة التي لم تتخذ
مسكناً.
يدخر العراقي أيام إجازاته في الوظيفة دنانير، يبيع ما يمكنه استعادته ثانية ويستدين، يترك العاشوراء عند أهله ويقطّع الرمضانات أسفاراً، ويهرب من صيفه الى شتاء الآخرين، هذا دأب غير القادرين منهم على البقاء أسارى الضجر والقهر والذل، شيمة الذين لم يجدوا بين جوانحهم مأوىً لطلائع أجسادهم، لم يجدوا لقلوبهم فرصة لرفقة امرأة شقراء، الذين سدت اليافطات السود زرقة سماء أرواحهم، الذين هزلت أقدامهم تبحث عن قطعة عشب تسحقها، الذين ظلوا يمسكون بكسف السماء اللاهبة وهي تسقط تباعاً على رؤوسهم، الذين ما عادت ابنة الجيران تظهر في أحلامهم فقد اختفت خلف سياج بيت أبيها، هذا الذي ظل يراكم الطابوق عليه حتى لم يعد بيتاً.
العراقي تطرده بلاده
[post-views]
نشر في: 13 يونيو, 2017: 09:01 م