TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > محنةُ مدينة.. قراءة

محنةُ مدينة.. قراءة

نشر في: 18 يونيو, 2017: 09:01 م

طوفانُ ذاكَ العهدِ كمْ طمرَ المدينةَ،
كمْ ستطمرها مع الزمنِ البراكينُ، الحروبُ... مراقدُ الموتى!
على أنّ اسمَها
في كلّ عهدٍ، من مراقي الخالدين يُطلُّ، يبعثها
فتنهضُ.
كمْ ستسلخُ جلدَها منْ أجلِ آخرَ؟
كمْ تعاودُ بعثَها، باسمِ استجابتها لذاك الاسم، مُجهَدَةً،
وكمْ يعلو على أنفاسها لحنٌ حزينٌ من رثاءِ النفس،
رغبةُ أنْ تقاومَ اسمها الخالد
منْ أجلِ أنْ تصفو مع الموتِ الصريحْ،
حتّى تُريحَ وتستريحْ!
29/7/2007
لا شك أني كتبتُ هذه القصيدةَ عن بغداد، في مرحلةٍ أكثر دمويةً من مراحل حروبها الدامية مع الآخر أو مع النفس، عبر قرابة نصف قرن. كانت 2007 في القلب من مرحلةِ حربٍ أهلية، وفسادِ حكم، وإسلامٍ سياسي، تطفو على ماء مستنقع آسن من الجهل وتفشي الأمية، وعمى البصيرة. انتزعتُها من ذاكرتي، التي لم تعد تنفصل عن المخيلة، ورحت أقلّبها بين ذراعيّ كمن يقلّبُ جثةً. الذاكرةُ تسعى لتثبيتها على الأرض، وفي شِباكِ التاريخ، والمخيلةُ تُطلقها إلى أفق الأسطورة الفالتة من أسر الزمان. لا شك أنها بغداد، التي أنتسب إليها في الذاكرة والمخيلة. حدث ذلك قبل عشر سنوات عجاف.
القصيدةُ تبدأ بـ"طوفان ذاك العهد"، وكقارئ لم أكن على يقين من عهد الطوفان هذا في القصيدة: أهو طوفان الأسطورة السومرية، طوفان العثمانيين، أم طوفان الرثاثة المعاصر؟ ولكن دهشةَ الشاعر من هذا الطمر الشامل للمدينة يوحي بالمعاصرة، وبنبوءة مستقبلية أيضاً: "كمْ ستطمرها البراكين، الحروبُ.. مراقد الموتى!" وكأنها نبوءة قدر لا مردَّ له. فهذه المدينة، حتى في عصرها الذهبي كانت على الحقيقةِ مدينةَ خليفةٍ جائر ومرتزقةٍ في السلاح وفي الكلمة، وشعراء ومثقفين، بين تابعٍ عن ضِعةٍ شبعان، ورافض عن أنفةٍ جائع.
ولكن الشاعرَ يريد لقصيدته أن تعتمدَ عنصراً درامياً؛ فهو على ما يبدو يرى مفارقةً بين "واقعٍ" للمدينة تاريخي، وبين "اسمٍ" للمدينة خيالي. وكأن بغداد الذاكرة التي يلتحق بها "الواقع" ليست بغداد المخيلة التي يلتحق بها "الاسم". المقطع التالي يؤكد هذا التأويل:
"على أنّ اسمَها/ في كلّ عهدٍ، من مراقي الخالدين يُطلُّ،/ يبعثها فتنهضُ."
إن اسمها يُطلُّ عليها من المخيلة التي تغذيها مراقي الخالدين، لا من واقعها ولا من تاريخها! يُطلّ عليها فتنهض، ولكنه اسمٌ، كلمةٌ فحسب. وهي تستجيب، لا بقوة ولادة جديدة، بل باستبدال جلد بجلد، ولذا فهي "مجهدةٌ" بفعل معاودة استجابتها لذاك الاسم، مرة إثر مرة.
المدينة تنهض ولكن كاستجابة لإسم. هل هو نهوض اسمي؟ القصيدة تلتبس هنا قليلاً على التأويل. ولكن تفسيري السابق يؤكده البيت التالي: "وكمْ يعلو على أنفاسها لحنٌ حزينٌ من رثاءِ النفس." وكأنها هنا ترثي النفس بلحن حزين من هذه النهضات الإيهامية المتكررة. وكأنها عن وعي تفعل ذلك، لأن على أنفاسها تعلو أيضاً "رغبةُ أنْ تقاومَ اسمها الخالد." رغبة أن لا تنتسب لـ "خلود المخيلة"، بل لـ" واقع الذكرة" والتاريخ.
الشاعر يترك فاصلة ليختم القصيدة ببيتين، تُشبه coda الموسيقى، وكأنهما "اللحن الحزين ذاك" يخرج من فمها هي، لا من فم الشاعر:
منْ أجلِ أنْ تصفو مع الموتِ الصريحْ،
حتّى تُريحَ وتستريحْ!
 إنها "بلاد الظما"؛ مدينتي التي "تمسحُ كلَّ مرفأٍ بلاجئٍ/ وكلَّ شمسٍ بدمٍ بريءِ." (من قصيدة تعود إلى 1969).

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

(المدى) تنشر نص قرارات مجلس الوزراء

لغياب البدلاء.. الحكم ينهي مباراة القاسم والكهرباء بعد 17 دقيقة من انطلاقها

العراق يعطل الدوام الرسمي يوم الخميس المقبل

البيئة: العراق يتحرك دولياً لتمويل مشاريع التصحر ومواجهة التغير المناخي

التخطيط: قبول 14 براءة اختراع خلال تشرين الثاني وفق معايير دولية

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

العمود الثامن: صنع في العراق

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: المستقبل لا يُبنى بالغرف المغلقة!!

 علي حسين منذ أن اعلنت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، والطاولات الشيعية والسنية تعقد وتنفض ليس باعتبارها اجتماعات لوضع تصور للسنوات الاربعة القادمة تغير في واقع المواطن العراقي، وإنما تقام بوصفها اجتماعات مغلقة لتقاسم...
علي حسين

إيران في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة

د. فالح الحمـــراني تمثل استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة، الصادرة في تشرين الثاني تحولاً جوهرياً عن السياسات السابقة لإدارتي ترامب وبايدن. فخلافاً للتركيز السابق على التنافس بين القوى العظمى، تتخذ الاستراتيجية الجديدة موقفاً أكثر...
د. فالح الحمراني

ماذا وراء الدعوة للشعوب الأوربية بالتأهب للحرب ؟!

د.كاظم المقدادي الحرب فعل عنفي بشري مُدان مهما كانت دوافعها، لأنها تجسد بالدرجة الأولى الخراب، والدمار،والقتل، والأعاقات البدنية، والترمل، والتيتم،والنزوح، وغيرها من الماَسي والفواجع. وتشمل الإدانة البادئ بالحرب والساعي لأدامة أمدها. وهذا ينطبق تماماً...
د. كاظم المقدادي

شرعية غائبة وتوازنات هشة.. قراءة نقدية في المشهد العراقي

محمد حسن الساعدي بعد إكتمال العملية الانتخابية الاخيرة والتي أجريت في الحادي عشر من الشهر الماضي والتي تكللت بمشاركة نوعية فاقت 56% واكتمال إعلان النتائج النهائية لها، بدأت مرحلة جديدة ويمكن القول انها حساسة...
محمد حسن الساعدي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram