اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > المتحف السكران

المتحف السكران

نشر في: 7 يوليو, 2017: 09:01 م

قد يظن البعض بأني أبالغ كثيراً حين أصف هذا المتحف بالسكران، لكنها الحقيقة الكاملة كما رأيتها في هذا المتحف الذي يتمايل على ضفة نهر صغير في مدينة ألكمار، غرب هولندا. نعم انه متحف البيرة، المملوء بكل أسرار وتفاصيل هذا الشراب الذي يشبه الذهب. هنا في هذا المتحف، نتعرف على عطر تاريخ وروح وحضور البيرة بين الناس، وسبب شهرتها، وحاجة وجودها في كل مطعم وحانة ومقهى وبيت، هنا نتابع تاريخها ومن أين جاءت والى أين وصلت. هكذا لأسباب جمالية لكن يسبقها فضول كبير، عزمت هذه المرة على زيارة (متحف البيرة) لأرى بنفسي التفاصيل وأطَّلِعُ على الشواهد. عبرت الخليج الذي يفصل مقاطعة فريسلاند -التي أعيش فيها- عن مقاطعة شمال هولندا عبر سد (أفسلاوت دايك) الطويل الذي يفصل بين المقاطعتين واتجهت الى وسط المدينة، فَلاحَ لي الجانب الخلفي لبناية المتحف، عندها إلتَفَّيتُ نحو الواجهة ودخلت، لأفاجأ ليس بالمتحف الجميل فقط، بل بيافطة صفراء كبيرة سُجِّلَتْ عليها معلومات وإرشادات حول محتويات المتحف، وقد كُتِبَ عليها (ان أول وجود للبيرة في تاريخ البشرية كان سنة (٣٥٠٠) قبل الميلاد في العراق، أيام الحضارة السومرية…) نعم في العراق! ابتسمت وأنا أرى ثقافتنا وابتكاراتنا موجودة في كل متاحف العالم تقريباً، حتى متحف البيرة لنا فيه حصة كبيرة، بل نحن أول من ابتكرها! نعم، نحن من اخترع الخمر وأهدينا سحره للبشرية، كما أهديناها الكتابة وكنوز المعرفة والفن.
في القرون الوسطى أصبحت البيرة شيئاً مهماً في حياة الناس بأوروبا الغربية، وكانت النساء تصنعها في البيوت، حيث كان الناس يشربونها بدلاً من الماء الذي لم يكن وقتها صالحاً بشكل جيد للشرب، وقد كان يصل معدل شرب الشخص الواحد في السنة الى (٤٠٠) لتر من البيرة ( المعدل الآن هو ٨٥ لتراً)، وبحلول سنة ١٨٥٠ كان في كل مدينة بهولندا مصنعاً للبيرة، والتي وصل عدد هذه المصانع الآن الى ٤٨٨ مصنعاً.
قاعات كثيرة وزوايا عديدة حملت الكثير من التفاصيل في متحف فريد من نوعه، فكل شيء عن البيرة موجود هنا. لكن من الأشياء التي أثارتني هي قاعة صناعة البراميل الخشبية التي تستعمل منذ سنوات طويلة لتعبئة البيرة ونقلها الى المقاهي والمطاعم، وهي تصنع عادة من ألواح من الخشب التي تُطَوَّقُ بحلقات معدنية، بشكل محكم بحيث لا تتسرب منها البيرة أثناء نقلها او حفظها. وما فاجأني ايضاً هي الأغطية المختلفة للقناني وتاريخها الذي مرَّ بمراحل عديدة حتى وصلت لصناعة الأغطية التاجية، المعروفة في العراق بأسم (السيفون)، الشهير بثنياته الجانبية التي يجب أن تكون إحدى وعشرين ثنية بالضبط، والذي أخترعه الأمريكي وليم بينتر سنة ١٨٩٢، وقد أُستخدِمَتْ هذه الأغطية في هولندا لأول مرة سنة ١٩٣١ . كذلك فإن العلب المعدنية ( التي تستخدم الآن للكولا والعصائر) قد استخدمت لتعبئة البيرة في هولندا منذ سنة ١٩٣٥، وقد تم تصنيعها لأول مرة في شركة غوتفريد كرولر في نيو جيرسي بأمريكا.
انتهيت من رحلتي وسط عالم البيرة الجميل والمشوّق لأخرج من الباب الخلفي للمتحف الذي ينتهي بمقهى كبير، حيث بانَ لي المطر الخفيف وهو ينعكس على ضفة النهر، وقد شاهدت رجلاً وحيداً يجلس خارج المقهى تحت المظلة، فشاركته الطاولة بعد أن استأذنت منه بالجلوس. ومن خلال ملابسه الجلدية وشاربه الطويل والوشم الذي على يديه وطريقة حديثه ولَفَّهُ للسكائر، كان يبدو وكأنه بحار هولندي قديم قد جاء من باطن التاريخ ليشاركني الحديث عن تفاصيل المتحف. بعد أن احتسيت كأسين من البيرة البيضاء، سألته إن كان يعرف مكاناً في المدينة لتناول سمك الهارنغ، فأشار بطريقة العارف الى الساحة القريبة، ثم الى اليسار حيث مخازن الجبن القديمة، بعدها رفع يده من جديد وهو يلف سبابته في الهواء ويقول: هناك في الخلف يوجد افضل مطعم لبيع الهارنغ في المدينة. شكرته ومضيت في طريقي ابحث عن رائحة السمك التي سحبتني بسهولة نحو المكان الذي بان من خلال علم كبير يخفق في الخارج، وقد رُسِمَتْ عليه سمكة كبيرة، لأتناول بعدها وجبتي المفضلة وأعود لأكتب هذا الموضوع.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram