لم يحصل على مرّ تاريخ الدراما العراقية هجوم مثل هذا الهجوم الكبير على بعض المسلسلات التي تتخذ من الشخصية الريفية أو المكان الريفي والجنوبي تحديداً، ومع كل تمثيلية أو مسلسل أو حتى برنامج يعود النقد اللاذع ثم يأتي شهر رمضان خاصة، لتشهد الفضائيات العراق
لم يحصل على مرّ تاريخ الدراما العراقية هجوم مثل هذا الهجوم الكبير على بعض المسلسلات التي تتخذ من الشخصية الريفية أو المكان الريفي والجنوبي تحديداً، ومع كل تمثيلية أو مسلسل أو حتى برنامج يعود النقد اللاذع ثم يأتي شهر رمضان خاصة، لتشهد الفضائيات العراقية عرضاً لواحدة من هذه المسلسلات أو البرامج وتعود عجلة النقد الهجومي التي تطحن كل رأي حتى الذي يعدها مسلسلات طبيعية تحاول زرع البسمة والاخذ بروح الكوميديا الى الانسان العراقي المعذّب والملاقي للكثير من المعاناة والصراع من الحروب المتوالية.
ولهذا يمكن لنا صياغة سؤال.. هل هذه المسلسلات هي مفتاح الكوميديا التي يحتاجها المشاهد العراقي في ظل الظروف التي يمر بها المجتمع؟ وهل هذه المسلسلات يمكن أن ترتقي بالفن والدراما العراقية؟ أم هي اغراق في الاسفاف واستغلال ممثلين كوميديين لهم حضور اجتماعي وترغيب وجذب على الشاشة الفضائية.؟
لا توجد موانع
الفنان المخرج والكاتب عمران التميمي يؤكد أنه يوجد ما يمنع من استخدام أية شخصية انسانية ومحاكاتها تلفزيونياً وسينمائياً أو روائياً، دون المساس بأنماطها العرقية أو الدينية.. ويضيف مستدركاً.. لكن يمكن التعرض لسلبياتها وحتى الى سذاجتها اذا كان الهدف هو اثارتها لتغيير هذا السلوك.. ويشير التميمي الى انه كثيراً ما أجد البعض ممن ينتقد تناول الشخصية الريفية في الاعمال الدرامية وكأن أهل الريف منزهين وأولياء صالحين، ليس فيهم مدمن خمر، لص، مرتشٍ أو قاطع طريق وهاتك أعراض.. ويمضي باستدراكه.. لم يسألوا انفسهم عندما تتناول الدراما لصاً أو منحرفاً بغدادي، فلا البغداديون يعترضون ولا هم .. ويوضح أن الريفيين هم بشر كما الآخرين فيهم الحَسِنْ وفيهم السيئ ولا يمكن لأيّ عملٍ درامي أن يتناول الخيّرين دون الاشرار فلا صراع ولا عقد.. ويبيّن انه لا أجد أن يوجّه النقد للعمل دون شكل أو انتماء الشخصية، وهنا نركن للمهنية لا لتبني وجهة نظر مناطقية تجعلنا لا نختلف عن الطائفيين، وهناك أمر يجب أن لا نغفله وهو أن للطبيعة واللهجة الريفية دوراً كبيراً في استحباب الكتّاب والمخرجين في تناولها بصرياً وهذا للأسف يجنح بالبعض منهم الى ما يسمّى بالإساءة.
لا إنصاف
ويرى الدكتور الفنان والروائي علاء مشذوب، انه لم تكن الدراما منصفة عندما أخرجت الريف العراقي بهذا الشكل، كونها قد جمّلته وحاولت أن تضفي عليه نوعاً من الفكاهة، كما في مسلسل (ماضي يا ماضي)، ويضيف الحقيقة أن الواقع هو أشقى مما انعكس على الشاشة الفضّية كونه يعوم بالجهل والتخلف بما يسمّى العشائرية والفصل وما زالت البداوة مسيطرة على أغلب تصرفاته وهو يميل لحل مشاكله للقوة، حيث يغيب القانون نهائياً، ويستبدله بالفصل أما أن يكون امرأة أو الجلوة، أو المئات من الملايين حيث تنشب الخلافات لأبسط شيء، بسبب كلب أو دجاجة أو سقي الأرض، وتذهب جراء هذا الخلاف أرواح بريئة. ويقول أيضاً انه مع كل ما تقدم هرب الفلاح وهجر أرضه ولكنه لم يهجر عاداته وتقاليده البالية بل ريّف المدينة وأتى بكل تخلفه وبدل أن يتمدن ريّف محيطه، وأستبدل القانون المدني بالقانون العشائري. ويعطي مشذوب مثالاً هي الدراما المصرية وكيف تتندر على الريف المصري أو الصعايدة في الأفلام والمسلسلات والمسرحيات ولا أعرف لماذا يستثار كثير من المثقفين عندما تخرج الدراما العراقية الفلاح العراقي بهذا السوء كما يتصوره. ويفيد بقوله إن ابناء الريف العراقي في الحرب العراقية الإيرانية، استفادوا عندما قدمت لهم حكومة البعث المقبورة سيارات (بيك أب) لنقل ثماره لسوق الجملة، ولكن الذي فعله هو تحول من فلاح الى حمّال ينقل بضاعة البقالين الى اسواق المفرد وفي فترة الحصار لم يتأثر نهائياً بل وكان يجني الملايين من زراعة الحبوب، إضافة الى أن المقبور صدّام قوىّ شكيمة الشيوخ حتى أطلق عليهم أسم شيوخ التسعين، وبعد عام 2003، يزدهر الريف بعد استئساد العشائرية على المدنية ما جعل كثيراً من المدنيين يلجأون للعشائرية تجنباً لشرور الجهلة كما حصل مع الأطباء.. ويتساءل: كيف بالدراما العراقية؟ ويجيب : أعتقد أن وضع الريف العراقي أسوأ مما قدم على الشاشة الفضيّة.
رسالة غير موفقة
لكن الفنان المسرحي جميل ماهود يقول إن الكثير من الاعمال الادبية والفنية استطاعت أن تسجل جانباً مهماً من حياة الشعوب.. ويعطي مثالاً بقوله هذا اميل زولا الكاتب الايطالي قيل عنه انه خير من صوّر روما في أعماله الأدبية.
وكذلك أسامة انور عكاشة الكاتب المصري قد نجح في توثيق جانب مهم من تاريخ مصر السياسي والثقافي والاجتماعي في مسلسل ليالي الحلمية من دون الاساءة الى اية شخصية اجتماعية وثقافية وسياسية بل لقد تحركت هذه الشخصيات بأريحية وفق مساحة درامية خطّط لها وبواقعية ملتزمة جداً.. ويضيف أن الدراما العراقية خطت هذا المجال وبخطوات مهمة جداً، فأنتجت اعمالاً درامية مهمة، فحكايات المدن الثلاث للمخرج محمد شكري جميل، تناولت شخصيات من مختلف الشرائح فهذا ابن الريف الرجل الطموح والعصامي والرجل المثقف والسياسي دون أن يمسّ أياً من هذه الشخصيات بسوء عنواناً وانتماءً.. لكنه يعود ليستدرك، ان ثمة اعمالاً درامية انتجت وبُثّت من قنوات غير حكومية قد اساءت وبشكل فاضح للشخصية الريفية، فهذا ماضي في مسلسل ماضي ياماضي وعريف شلتاغ وجوية في مسلسل بيت الطين، لقد ظهرت هذه الشخصيات سطحية سلبية متخلفة ممقوتة ضعيفة مسلوبة الارادة والتفكير مجردة من كل شيء وذلك لغاية في نفس يعقوب وهو الاضحاك عليها لا منها الكوميدية كما نعرف هي كوميديا الموقف والحوار، متناسين أن المجتمع الريفي الذي انتج المرأة الحكيمة والشاعرة والقوية في شخصية فدعة وشخصية الثائر والوطني والمضحّي من اجل حرية بلده واستقلاله في شخصية الشرطي حسين رخيص والرجل الحكيم والكريم والورع في شخصية علي آل صويح.. ويرى أن الدراما العراقية اساءت لهذه الرموز الوطنية الكبيرة فكأن الشخصية الريفية اعدّت وبشكل مثير للاستغراب للإسفاف والسخرية من اجل اثارة الضحك غير الهادف.. ويمضي بقوله إن ما اريد قوله إن الشخصية الريفية في الدراما العراقية لم توفق في ايصال رسالتها بشكل دقيق وواقعي بل كانت هذه الشخصية مادة للضحك الرخيص.
فشل الدراما
الناقد المسرحي والسينارست سعدي عبد الكريم يقول هو ايضاً أن الدراما التلفزيونية تُعدُ من النتاجات الفنية، الأكثر ترسيخاً في ذاكرة التلقي الجمعية، لما لها من تأثير مرئي مباشر على المشاهد ومحاكاة واقعه اليومي بطريقة فنية خلاقة، وهي بالتالي معنية كمنتج إبداعي أن ترتقي بالذائقة الجمالية من خلال جملة من المعايير.. ويضيف ان المعطيات التي تكتنفها (ثيمة) العمل الفني التلفزيوني ومدى صلاحية إسقاطه على الحيثيات المجتمعية المعاشة ومدى انتعاش فاعليتها في اتجاه التعبير عن تلك الحيثيات عبر استثمار المنافع الفنية والتقنية الدرامية الحديثة لإظهار المعالم الإبهارية وهذه المسؤولية الكبرى تقع أولاً على النص السيناريو باعتباره البنية الأساسية الأولى للعمل التلفزيوني ومروراً بالفنيين، والتقنيين والجهة المنتجة وانتهاءً بـالمخرج على اعتباره المُتسيّد الحقيقي على العمل وهو المسؤول عن توصيل الفكرة المطروحة من خلال العمل الدرامي التلفزيوني.. ويبيّن السعدي أن القصة أو الحكاية المطروحة تعتبر من خلال العمل التلفزيوني الدرامي هي اللبنة الأصيلة في معمارية بناء الصراع الحبكة للعمل الفني الدرامي، وثمة موارد بعينها يختارها المؤلف لتحديد مظهرية نصه، فهو يعتمد مثلاً على المصادر التاريخية والمراجع الموثقة في حالة الكتابة عن موضوعة تاريخية ذات مرجعيات لا يمكن التلاعب بأحداثها الثابتة مع فسحات من الحرية في تأثيث رؤيته الفنية الدرامية.. ويرى في جهة اخرى انه يمكن له اختيار عمل واقعي أي من جنس الواقع المعاش كالعمل المستوحى من الأجواء الريفية العراقية، فهنا يكون أمام مسؤولية اكبر لأنه يحاكي شريحة كبيرة من المجتمع التي تنتمي إليها الفحوى الشكلية، والموضوعية وإظهار الأجواء بقصدية واقعية فاعلة، ومتفاعلة في جسد العمل الفني التلفزيوني لأن الشخصيات المطروحة في العمل عليها أن تمتلك مهارة التجسيد الحقيقي الواقعي الريفي وتمكنها من التعبير عن الحس الشعبي لتلك الشريحة الريفية المراد استلالها كعينة في خضم أحداث المسلسل الدرامي والتحدث بطريقتها، والالتزام بثوابتها وتقاليدها وعاداتها وموروثها التاريخي وإيقاعها الزمكاني وهما ملزمان أيضاً أي المؤلف + المخرج، بإظهار الملامح والمعالم الحقيقية لتلك الشريحة دون تزييف للواقع ودون أية محاولة لتشويه الحقيقة ودون ادعاءات ليس لها نصيب من الصحة تحت غطاء انه عمل فني إبداعي يستوجب معه الامتثال الى الرؤية الخيالية لإنضاجه فنياً.. ويشير الى ما يحصل بأنه ترقيع إبداعي وهروب خلف قناعات غير مستوفية لشرائطها الفنية والواقعية والاختفاء وراء مصفدات التفسيرات الوهمية التي لا علاقة لها لا بشكل ولا بمضمون العمل التلفزيوني الدرامي الريفي. ويؤكد السعدي أن الدراما التلفزيونية العراقية فشلت ولم تنجح في تقديم العمل الدرامي الذي ينتمي للريف العراقي.. ولإثبات الرأي يحدد بعض النقاط التي من شأنها أن تضع سبابة التأشير على الخلل الذي وقعت فيه الأعمال التلفزيونية المسلسلات التي تناولت شخصية ابن الريف والأجواء الريفية انه ذلك العبق الذي تربينا على استنشاقه منذ طفولتنا وأريج الأنهار ورائحة طين الأرض التي عاش عليها أجدادنا منذ أكثر من خمسة آلاف عام (ق.م) وعلّموا البشرية برمتها كيف يكتب الحرف.. ويقول أيضاً انه تخرج علينا الشخصية الريفية العراقية بهذا الهزال الفني وبهذه الضحالة في التجسيد وبهذا القدر من الإسفاف وبهذا الكم الهائل من الألفاظ التي لا تنتمي لا الى الريف ولا لأهله ولعلّ اهم ما قدمته الأعمال الدرامية التلفزيونية الريفية أنها قدمت وجبة خالية من أيّ طعم أو مذاق وبألوان درامية باهتة ورتيبة، بعيدة كل البعد عن واقع الريف العراقي الجميل.. ويرى أن ما يلفت النظر في هذه الأعمال الدرامية التلفزيونية الريفية أنها ابتعدت كل البعد عن التعبير عن الواقع الحقيقي اليومي الريفي وباستخدام لهجة لا تنتمي لأهل الريف بموسيقاها العذبة وجرسيتها الخلابة وراحت تلك الأعمال التلفزيونية تلملم أشلاء مريضها الدرامي (الميت إكلينيكيا) لإيداعه حجرة العناية المركزة مرة ثانية، من اجل التفكير بجدية لتقديم الشخصية الريفية العراقية، بوجهها الناصع البياض.