في وقت بعيد، وقبل سنوات عديدة مضت، قال مدير متحف تيت غاليري في لندن ( أن مستوى أعمال النحات هنري مور لا يليق بمتحف تيت غاليري، وسوف لن تصل منحوتاته الى هذا المتحف، ولن يأتي أبداً، اليوم الذي تعرض فيه اعماله في هذا المكان العظيم) هكذا أطلقها بطريقة العارف بقيمة الفن وتأثيره وأهميته، وقالها بصيغة القَيِّم والمحافظ على رفعة الإبداع وجودته. لكن مدير المتحف ذاك، رحل مع أفكاره الضيقة التي لا تتناسب مع حجم عبقرية مور، ولم يدر بخلده، ان التاريخ لا يأخذ بكلام العابرين وبائعي التنظيرات التي لا تستند الى معرفة بأصالة وقوة الاعمال الفنية، لأن أعمال هنري مور تتصدر الآن اجمل وأهم مكان في تيت غاليري نفسه، حيث يتوقف أمامها بضعة ملايين زائر سنوياً، للتمتع بمشاهدتها وتحسّس جمالها وقيمتها الفنية.
أكتب هذه الكلمات بمناسبة زيارتي للقاعة الواسعة التي تضمّ اعماله في تيت غاليري. هنا أقف في هذا المكان وأتخيل ذلك الرجل الذي كان يقرر من هو الفنان الجيد ومن هو الذي يجب أن يبقى خارج أسوار المتحف،. مع كل ذلك فقد نسي الناس هذا المدير وبقيت جواهر مور تلمع وتتوهج كل يوم أكثر فأكثر. أتجول هنا ويزداد يقيني بأن اعظم اعمال هذا النحات موجودة في هذا المتحف، هنا وسط القاعة الكبيرة، أقف لاتطلع الى منحوتاته ذات الحجوم الكبيرة، وأستعيد في ذاكرتي اعماله التي تعيدني كل مرة الى أشكال الحصى والعظام، واتقاسم مع الآخرين في هذا المتحف متعة النظر الى هذه الموهبة العبقرية التي غطت القرن العشرين، وأَثَّرَتْ على النحت بشكل عميق وحاسم.
أعمال مور في الغالب هي اعمال تشخيصية، لكنه نزع عنها ثياب الواقع ليُلبِسُها هيئات تقترب من التجريد وتحمل الكثير من الهيبة والغموض والسحر الطاغي. وحين نسترجع شباب مور المبكر، حين دخل الى متحف (فيكتوريا والبرت) في لندن، ووقف منبهراً امام اعمال اتنوغرافية تغلغلت في روحه وتأثر بها، حينها لم يكن يعلم بأنه سيصبح أشهر شخصية بريطانية بعد تشرشل، يُحتَفى بها داخل وخارج البلد. نعم في ذلك المتحف شاهد مور منحوتات (تشاك مول) أو (الأقدام المدَوِّية) التي تعود لحضارة المايا قبل اكتشاف أمريكا، لتكون أساساً ومرجعاً للكثير من اعماله العظيمة التي يقول مور عنها (كل شكل في الطبيعة يمكن أن يقودني نحو الفن ويعطيني أفكار جديدة، كل شكل سواءً أكان انسانياً أم طبيعياً أم حيوانياً. فالناس والحصى والقذائف وغيرها الكثير من الأشكال يمكن أن تساعدني في النحت).
هنا في تيت غاليري تعرض له اعمال هي خلاصة عبقريته. ففي احدى الزوايا المهيبة، أشاهد البرونز يتلألأ مثل الجوهرة، حيث يجلس (الملك والملكة) بجسديهما النحيلين ووجهيهما اللذين يبدوان وكأنهما قد جاءا مِن كوكب آخر. هكذا يشغلان مكانهما في جلال وهدوء وسكينة، وكأنهما في معبد قديم. وفِي جانب آخر من المكان ارى تمثال (العائلة) حيث ينسكب فوقه الضوء ليمنحه لمعاناً من نوع خاص وحضوراً مؤثراً رغم ضبابية الوجوه التي قَرَّبَت الأشكال من التجريد. ويعتبر هذا الموضوع من المواضيع المفضّلة عند مور، وكذلك موضوع الأم والطفل، حيث أنتج العشرات من التماثيل التي تظهر فيها الأم وهي تداعب طفلها. في وسط القاعة يظهر تمثال كبير لامرأة مستلقية غابت كل ملامحها ولم يبق منها سوى بعض الكتل التي مزج فيها التجريدية والسريالية ليعطينا درساً مدهشاً في استثمار الفراغ والكتل بعمل في قمة الحداثة. اعمال كثيرة اطلع عليها عن قرب لأرى هذا النحات المارد وهو يجلب هذه الكائنات من خياله ليمزجها مع البرونز أو الحجر ثم يقدمها لنا كهدايا عظيمة نشاهدها كل وقت، ولا يبعدنا عنها سوى تذكرة الدخول الى المتحف.
الهيبة والغموض
[post-views]
نشر في: 14 يوليو, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...