يسألني شبان مبدعون مازالوا في أول الطريق، وتسألني صديقات عراقيات وعربيات من المبدعات الشابات غالباً عن السر في مواصلتي الابداع والعمل في هذا العمر وبهذه الوتيرة من التدفق والاستمرارية، وكان أحد الاسئلة من صديقة عربية تقيم في فرنسا متخصصة في التحليل النفسي (اللاكاني واليونغي) وتكتب القصة وتوظف خبرتها في التحليل النفسي لتطوير القدرات الذاتية لدى الشباب والنساء، سألتني :
- معجبة بتدفقك الابداعي وعملك في الترجمة، ولديّ فضول لأعرف كيف تنظمين وقت الكتابة لأطبق خطواتك وأضع برنامجاً للعمل على هدي تجربتك الطويلة ؟
لاأدري إن كانت التجارب الشخصية ذات جدوى في إضاءة الطريق أمام الآخرين ، بخاصة أن ظروف كل شخص وأهدافه تختلف اختلافاً أكيداً عن سواه؛ فنمط حياة أيّ كاتبة أو كاتب هو خلاصة جهد ومران ومثابرة واختيارات خاصة في الحياة الشخصية والعمل.
لعلني أملك من الصبر والشغف ورغبة التغيير والتجدد مايمنحني الدافع لاختيار سبلي وطرائقي الخاصة في العمل والعيش بعد تجارب ومواجهات مضنية في الوطن والهجرة جعلتني أعتز باستقلاليتي وأتشبث بوحدتي واتخاذ قراري، والالتزام بنظامي المستند الى عناصر متعددة تعزز التوازن وتنظيم الوقت للعمل، وقد لايجدي الحديث عن طريقة حياة أحدنا، فلكل منا رؤيته ودوافعه وأهدافه وأحلامه المختلفة، لكني – قلت لصديقتي – سأحدثك عن الشغف، فالشغف هو اللهب العظيم الذي يتقد به العقل ويضيء مسالك وجودنا، وهو محرك حياتي : شغف بالجمال والطبيعة وكتابة ما أحب، أكتب وأنا في حالة من المتعة والبهجة، لا أقسر نفسي على كتابة قصة أو رواية أو اختيار ترجمة مطلقاً، فعندما يتملكنا الشغف ينعكس ذلك على سلاسة أدائنا وجودة العمل، أما ثاني العناصر الأساسية فهو الإرادة ،غير أن إرادة بلا شغف لاتفضي الى نتيجة، الارادة والتصميم مع موقف إيجابي من وعي قدراتنا الابداعية وإيماننا بأنفسنا.
أما العنصر المهم الآخر فهو الانضباط السلس بلا قسوة أو تقيّد روبوتي وإنما بتنظيم معقول لاستثمار الزمن بما يوافق مشاريع العمل وحدود طاقتنا وإيجاد إيقاعنا الخاص الذي يتوافق مع نزوعات الروح. أنام مبكرة وأصحو في نحو الساعة الرابعة أو الخامسة فجراً لكتابة أعمالي الابداعية حتى الثامنة وأتمشى لنصف ساعة صباحاً وعندما ينتهي عملي الصباحي قد أقرأ فصولاً من كتاب يحفز الذهن وأكثر ما اقرأ الكتب العلمية والفكرية واختار كتباً عديدة لكاتب واحد كل فترة، وفي أحيان أخرى أخالف هذا وأكتب في الرواية على مدى أسبوع كامل من غير توقف مستسلمة للشغف وحده ، أحرص على القيلولة وغالباً ماتقدح في ذهني أفكار ملهمة قبل الاستيقاظ، أنهمك في الترجمة لثلاث ساعات مساءً أو أدع كل شيء لأشاهد الأفلام الوثائقية عن الطبيعة وحياة الشعوب ومستجدات العلم أو فيديوهات لحوارات مع علماء ومفكرين تسعفني في فهم عالمنا، وأخصص يوماً واحداً للخروج والتسوق وتدبير شؤون الحياة أو لقاء صديقة أو اثنتين في كافيه أوألتقي ابنتي وعائلتها أو أزور معرضاً فنياً، وفي يوم الجمعة تنجز لي سيدة سريلانكية أعمال البيت بإخلاص وبراعة ويومها أنصرف لكتابة مقالاتي الصحفية وتهيئة الفصول التي أنجزت ترجمتها للنشر.نتيجة لكل ماتقدم كان لابد أن تتسم حياة المرء بالزهد والعزلة والانتاج المتواصل، ومازلت منذ سنوات أعتذر عن حضورالمؤتمرات والندوات والملتقيات التي أدعى إليها في بلاد عربية وأجنبية وأمتنع عن الظهور في المقابلات التلفزيونية لقناعة شخصية تخص رؤيتي للشهرة والاعلام، وأرى أن لكل امرءٍ منا ّ نمط حياة يختاره ويشكلّه من خلاصات عمرٍ وتجربة عيش.
الشغف وحياة الكتابة
[post-views]
نشر في: 15 يوليو, 2017: 09:01 م
انضم الى المحادثة
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...
جميع التعليقات 1
يوخنا دانيال
قناديل الشغف .. وحديد الإرادة.. في حياة الكتابة