نشرت صحيفة الغارديان مقالة للكاتبة التركية أليف شفق تحدثت فيها عن القضايا المعاصرة التي تشغل بال العديد من مثقفي العالم:تعيس ذلك البلد الذي يكره مثقفيه ووطني الأم تركيا، ، واحد من تلك البلدان . تزداد حملات التشويه التي تطال المثقفين اليوم في وس
نشرت صحيفة الغارديان مقالة للكاتبة التركية أليف شفق تحدثت فيها عن القضايا المعاصرة التي تشغل بال العديد من مثقفي العالم:
تعيس ذلك البلد الذي يكره مثقفيه ووطني الأم تركيا، ، واحد من تلك البلدان . تزداد حملات التشويه التي تطال المثقفين اليوم في وسائل الإعلام الموالية للحكومة، ويتم التشهير بهم في وسائل التواصل الاجتماعي، ويتهمون بأنهم "خونة" أو "يتعاونون مع القوى الغربية"، ويحاكمون أو يسجنون أو ينفون. ولكن شيئا واحدا لا يمكن نسيانه. فتركيا، تماما مثل روسيا، لديها تقليد قديم ومحزن في اعتبار المثقفين اشخاصا خطرين وجعلهم يعانون لجرأتهم على التفكير بشكل مختلف.
هنا في المملكة المتحدة الوضع مختلف جدا. وحرية التعبير هي السائدة، والنظام الديمقراطي قوي. ولا يتم مقاضاة الكتاب الذين يتناولون القضايا المثيرة للجدل، ولا يتعرض آلاف الأكاديميين الى الفصل ، ولا يودع الصحفيون في السجن بشكل جماعي. وبالمقارنة مع نظرائهم الأتراك أو الروس أو الفنزويليين أو الباكستانيين أو الصينيين، يتمتع المثقفون البريطانيون بقدر كبير من الحرية. ويتوقع المرء أن يكونوا على بينة من هذا الامتياز، وان لا يتحدثوا نيابة عن أنفسهم فقط ولكن يوصلوا أيضا اصوات أولئك الذين لا يستطيعون التعبير عن آرائهم فلماذا لا يوجد الكثير من المثقفين في هذا البلد؟ الجواب يكمن في كلمات أكاديمي بريطاني قال لي ذات مرة: "حسنا، نحن نعتقد أن من يطلق على نفسه اسم المثقف هو شخص متغطرس قليلا ومن يقوم بذلك علنا هو انسان متعجرف ".
يبدو أن هناك تصنيفا معينا للعالم في عقول بعض الناس. ووفقا لهذا التصنيف ، ليس هناك حاجة إلى الناشطين من أجل حرية التعبير وحقوق الإنسان وحقوق المرأة إلا في تك الأجزاء من العالم التي تكون فيها الأمور سيئة وتتعرض فيها الديمقراطية الى الهجوم. ما يبدو متغطرسا بالنسبة لي هو الافتراض بأن الحاجة ملحة الى المثقفين في الدول المتخلفة فقط، حيث أننا في الغرب الديمقراطي المتقدم، تجاوزنا تلك "المشاكل الصغيرة". ويعبر عن هذا التمايز الجغرافي الغريب بشكل علني أحيانا وغالبا بشكل غير مباشر؛ وفي كلتا الحالتين، فإنه راسخ بعمق. حسنا، هذا ماكان.عليه الامر ولكن الأشياء تتغير. ويجب ان تتغير. وفي النظام العالمي الجديد الذي يدعو اليه ترامب يدرك المزيد والمزيد من الناس في جميع أنحاء الغرب أنهم مطالبون بالدفاع عن الحقوق والحريات التي منحت لهم منذ فترة طويلة
في هذا العصر من عدم اليقين والقلق على نطاق واسع، فان السياسة في كثير من الأحيان تقاد من قبل العاطفة. وعلى الرغم من ذلك، فإن العلم السياسي السائد يقلل من قدرتها. وتفترض معظم التحليلات أن البشر مخلوقات عقلانية يمكن قياس أفعالها المستقبلية بمساعدة بيانات تجريبية. ولكن الواقع هو، انه في زمن التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية السريعة، فان عواطفنا هي الغالبة. وللأسف، فحتى الآن، أثبتت ديماغوجية الشعبوية أنها أكثر مهارة من اليسار الليبرالي في الاستفادة من مشاعر الناس. وهذا يحتاج أيضا إلى التغيير.
لقد دخلنا حقبة جديدة في تاريخ العالم. والديمقراطية الليبرالية مهددة على نطاق واسع. هناك خطاب خطير يتبلور خارج حدود أوروبا يدّعي أن "الديمقراطية ليست مناسبة للشرق الأوسط أو للشرق عموما". ويقترح أصحاب الانغلاق على العالم نماذج اجتماعية جديدة يتم الاستغناء فيها عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير و عن كل شيء مهم لاجل الاستقرار الاقتصادي. إنهم لا يفهمون أن الأمم غير الديمقراطية هي أمم تعيسة للغاية ولا يمكن أن تكون مستقرة بأي شكل من الأشكال.
وتقدم تركيا، وهنغاريا، وبولندا ... مثالا بعد آخر على أن الديمقراطية أكثر هشاشة مما تبدو لنا. انها ليست شيئا ماديا تمتلكه بعض البلدان في حين لا تملكه بلدان آخرى ؛ بل هي نظام بيئي يحتاج إلى حماية مستمرة ودعم ورعاية. واليوم، تهدد الحركات الشعبوية والخطابات القبلية، هذا النظام البيئي. وإذا لم نتكلم عن حقوق الإنسان الأساسية والقيم التعددية، فإننا نخاطر بفقدانها واحدا تلو الآخر. وتعطي تركيا دروسا هامة حول كيفية التراجع عنها بسرعة محيرة. وما حدث فيها يمكن أن يحدث في أي مكان.
. بعد عقود من العولمة، سواء كنا نحب ذلك أم لا، اصبحنا جميعا في مركب واحد . وباتت قصصنا، ومصائرنا، ومستقبلنا مرتبطة بشكل عميق . وهذا يعني أيضا أن الديماغوجيين الشعبويين في بلد ما سيشجعون الديماغوجيين الشعبويين في أماكن أخرى. ويشجع بعضهم البعض على الاستبداد بالطريقة نفسها التي تغذي فيها الأيديولوجيات المتطرفة بعضها البعض. وإزاء هذه الخلفية المضطربة، نحتاج إلى تضامن عالمي حول القيم الديمقراطية المشتركة. و إلى مزيد من النشاط، ونحن بحاجة إلى المثقفين. دعونا لا ننسى النهوض الفكري الذي حدث في أوروبا خلال قضية دريفوس في أواخر القرن التاسع عشر. وقد حدث ذلك في الوقت الذي أخرجت فيه وحوش التعصب القومي والعنصري والانغلاق والعزلة رؤوسها العفنة.وحينها رد أميل زولا عليها ببيانه الأسطوري، في مقاله الشهير (اني اتهم ) الذي كان تعبيرا عن ضمير العصر.
تصنع الشعبوية خرافاتها. من قبيل القول أن المثقفين "نخبة ليبرالية مميزة" ليس لها اتصال مع "الناس الحقيقيين". ولكن في الحقيقة، عمل الكثير من المثقفين في الماضي كموظفين عاديين ولم ينتموا الى الطبقة الحاكمة. من حنا أرندت إلى إشعيا برلين، كانوا يدرّسون في الجامعات لأنهم يقدرون الأوساط الأكاديمية ولأنهم لا يستطيعون كسب العيش من خلال تأليف الكتب وحدها. ليس صحيحا أن المثقفين فئة متميزة. ومن الخطورة أيضا الإفراط في رومانسية الشعب. اليوم هناك ارتفاع مثير للقلق في الخطاب "الفكري المعادي للجمهور". وتغذي هذا الخطاب الاوساط الشعبوية والقومية والتي تدعو الى العزلة. كما تغذيه وسائل التواصل الاجتماعي خلال فترة قصيرة.
دعونا نتخلى مرة واحدة وإلى الأبد عن الكليشيهات حول ان المثقفين اناس متعجرفون و متكبرون. دعونا أيضا نتوقف عن القلق حول ما قد يقوله الناس الآخرون إذا ما كنا نلتزم بالمنطق والعقل. لدينا أشياء أكثر أهمية للقلق حولها. إن زوال المثقفين من عالمنا هو أشارة سيئة. و لن يفعل سوى جعل الأمور أسهل بالنسبة للديماغوجيين والمستبدين. وسيسرع من انهيار الديمقراطية الليبرالية التعددية والتضامن العالمي. فبدون المثقفين سننطلق إلى عالم من الثنائيات: "نحن" مقابل "هم". وسوف تتلاشى الفوارق. ونحن نشهد بالفعل دلائل على هذا الاتجاه. وفي كل قضية رئيسية يفرض علينا الاستقطاب المصطنع. وفي المناقشات العامة على شاشات التلفزيون وفي أماكن أخرى نشاهد عالما ملحدا يجادل عالما متديناً . أو يقوم المتحدث المؤيد لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بمهاجمة المتحدث الذي يعارض الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. أو "شخص مرعوب من الاسلام" في مواجهة مسلم متشدد وهلم جرا. منذ متى و العالم تحول هكذا الى اسود وأبيض؟ المثقف هو شخص يتحدى المعارضات الثنائية، يبني الجسور الثقافية، ويمتلك المرونة المعرفية لربط مختلف التخصصات ويدافع بحماس عن طريقة التفكير الدقيق.
يجب أن يكون المثقفون جريئون وشجعان ويتكلمون بصوت عال ويأخذون زمام المبادرة . لقد آن الأوان لوقف تشويه هذا المصطلح. على الأقل احتراما لأولئك الناس الذين يدفعون ثمنا باهظا في أجزاء أخرى من العالم فقط لكي يكونوا مفكرين احرار
عن: الغارديان