كاظم الجماسياصبحت القاعدة التالية بديهة شاخصة صلبة لاتقبل الدحض، قاعدة ان لاوجود للاستبداد من دون اقصاء مايخرج عن سياقاته وانماطه، اي ان أي وجود للرأي الاخر يعني حتما غياب الاستبداد والعكس صحيح. هذه القاعدة ليست وليدة اليوم او الماضي القريب، بل هي قائمة منذ قيام اول تجمع بشري جاوز تعداده الاثنين، وولدت مع اول احساس بالذات الفردية، او مانسميه بغريزة الانانية،
حين يكون خيار الفرد مقتصرا على مصالحه ورغباته ونزواته فقط من دون اي تقدير لمصالح الاخر ورغباته. وتخبرنا قصص التاريخ بما لايمكن حسابه من قسوة جرائم الاستبداد، منذ ان فضل قابيل نفسه على اخيه، مرورا بكل جرائم الغدر والقتل الفردية والجماعية، حيث يهدر الاخ دم اخيه والابن دم ابيه و(الفارس المظفر) دماء قبائل بإكملها، نسائها وشيوخها واطفالها، والقائد الاوحد يزهق ارواح بني جلدته في غياهب سجونه ومحارق حروبه وغازاته المميتة، وسلسلة طويلة ليست منقطعة من دمويات الاستبداد بالغة الجرم والشناعة. ان اية محاولة لتحليل ظاهرة الاستبداد، لايمكنها اغفال حقيقة أن تلك الظاهرة لم تكن تتكرس بهذا النحو الكوارثي ان لم تكن قد عضدتها الأطروحة الواحدية للمقدس، والتي جزمت بصورة قاطعة بتكفير الاخر- المختلف من دون مراجعة منطقية عقلية لما يقدمه من مشاريع او بدائل، لقد غادرت بلدان العالم المتقدم (العالم الاول)، الاشكالية تلك منذ وقت مبكر في مستهل سنوات عصر التنوير في اوربا حين دعا القديس أوغسطين مقولته الى الفصل الكامل بين الدين والدولة، والى ان يكون الدين شأنا خاصا يمثل العلاقة بين الفرد ومن يعبده، ولايمسي تشريعا يقسر حياة الاخرين اليومية بأنساق لاتمت الى الواقع بصلة، فضلا عن تكريسها السطة الدينية الواحدة المنفردة، الامر الذي يعني اقصاء وتهميش الاخر بل تكفيره وتجويز قتله. وقد انتجت عقائد الواحدية على مر التاريخ مولدات عنفية كان من تركاتها ابشع الجرائم بحق الانسان والانسانية، أذ حرفت القيم او ماندعوه المنظومة الاخلاقية المكرسة بفعل التراكم والعرف الاجتماعي ومنها خصلة الشجاعة عن فحاواها الانسانية ومجدتها بأتجاه الفحولة الطاغية والشراهة في ممارسات العيش اليومي وابتكار اشد الطرق وحشية لإيذاء الآخر، فضلا عن التغني بالعقائد الدموية التي تمثل فكرة القرابين والأضاحي عبر إراقة الدم بمختلف ممارساتها حجر الاتكاء بالنسبة لها من اجل إعلاء شأن جرائمها المروعة. محاكم التفتيش، ومعسكرات الاعتقال النازية، وقبلهما المهرجانات الدموية لقياصرة روما، ودمويات الأمويين والعباسيين ومن تلاهم، وأقبية التعذيب والإعدامات وحفلات الجلادين الشهيرة في قصور النهاية والمخابرات والأمن العامة والرضوانية والنقرة والشعبة الخامسة و.. و.. وسلسلة من محارق الحروب المتصلة هنا في بلادنا منذ أن صيرتها الطبيعة (بلاد) حتى يومنا هذا، وتوزعت كذلك بقاع الكرة الأرضية كلها، والتي كان لها بداية وليس من نهاية لها حتى اللحظة.
فضائع الاستبداد
نشر في: 23 فبراير, 2010: 05:08 م